ما كانت تطمح اليه وتعمل له اسرائيل والصهيونية العالمية لسنوات طويلة، تحقق في ايام قليلة وبسرعة قياسية. فبغضون فترة زمنية لم تدم اكثر من ثلاثة اشهر كحد اقصى، خرجت اسرائيل منتصرة، وها هي تقوم بما يحلو لها، وتمارس سطوتها وعربدتها في المنطقة ككل. تم خداع غالبية الناس الذين اعتقدوا ان هذا اليوم لا يزال بعيداً، مع الاشارة الى ان من يتبجّح حالياً انه كان يتوقع ما حصل وبهذه السرعة، لا يقول الحق، وهو بعيد كل البعد عن الحقيقة. وللتوضيح، لا يجب على احد الاعتقاد ان هذا المقال هو لدعم "محور المقاومة"، وان العداء لاسرائيل وعدم الاشادة بإجرامها، هو تقديس لمن يناصبها العداء، علماً ان السياسة التي يتّبعها هذا المحور سيئة جداً، لا بل خطيرة، وهذا لا يمنع من قول الامور كما هي.
اليوم، بدأت تتضح اكثر فأكثر الصورة التي كان يتحدث عنها المسؤولون الاميركيون لسنوات، والتي كان يعمل لها الاسرائيليون والصهيونية العالمية لاجيال، والتي كان يتفاداها او يسير بها العرب لعقود. ليس الحديث فقط عن سقوط نظام آل الاسد في سوريا بعد 50 عاماً من الاستبداد، بل عن مجمل الاحداث التي انطلقت من عملية "طوفان الاقصى" في 7 تشرين الاول 2023 وحتى اليوم. كل الاستغراب الذي ساد خلال اليوم الاول للعملية، بدده الاجرام الاسرائيلي الذي، وعلى طريقة افلام جايمس بوند، حصل على "ترخيص بالقتل" من الادارة الاميركية ومن تمون عليه (اي الغالبية الساحقة من دول العالم) ليقوم بما يحلو له ويريحه ويزيل من امامه اي خطر جدّي على وجوده واستمراريته.
اليوم، بتنا نفهم بحق سبب اختيار الولايات المتحدة الاميركية لبنان لاقامة اكبر سفارة لها في الشرق الاوسط، فيما كانت الضبابية تلف هذا الموضوع في ظل الوضع المتأرجح والمقلق الذي ساد (ولا يزال) لبنان والمنطقة ككل، وفيما كانت الاسئلة تنهال حول المعطيات التي أدّت الى اتخاذ هذا القرار في بلد شهد مرة إلزام السفير الاميركي على مغادرة السفارة بالقوة (ولو من دون اراقة دماء).
اليوم، بتنا نفهم سبب اضعاف النظام السوري منذ العام 2011 والابقاء عليه ولو صورياً، بعد ان فقد صورته ودوره ونفوذه وقدراته، بحيث تمت ازالته بـ"شحطة قلم" ولم يصمد ساعات قليلة، ولم تطلَق رصاصة واحدة دفاعاً عنه. وها هي سوريا قد باتت من دون أيّ قدرة عسكرية بتاتاً، اكانت جوية او برية او بحرية، بفعل الضربات الاسرائيلية المتتالية على مدار الساعة التي استهدفت كل المقدرات العسكرية السورية في اقل من يومين، وبمباركة ودعم من واشنطن والدول الاوروبية، التي وللسخرية، هي نفسها الراعي الابرز لتحرك الفصائل المسلّحة التي "استفاقت" على وجوب احداث انقلاب وتسلّم السلطة لنشر "الديمقراطية"، فيما هي خرّيجة الممارسات الارهابية والجرائم التي لا تزال آثارها حاضرة في الاذهان والنفوس.
اليوم، بتنا نفهم اهمية اغتيال الامين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصر الله، والذي قيل عنه من قبل محبّيه واعدائه (ومنهم رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو) انه هو كان "المحور". والا كيف يمكن تفسير تشتت وتفكك الدول والمنظمات التي كانت تعرف بـ"محور المقاومة" بعد اغتياله؟.
اليوم، بتنا نفهم ان كل ما حصل ويحصل كان لخدمة اسرائيل، وان الوقت كان العامل الوحيد الذي ادى الى عدم وصولنا الى هذه الحالة من قبل. نعم، انتصرت اسرائيل وخسر كل من كان يراهن على زوالها، وحتى على اضعافها، وهي لن تعيش لسنوات طويلة في رعب او خطر، فلا توازن رعب ولا توازن قوة ولا من يحزنون. ارتاح الاسرائيليون من المخاطر التي كانت محدقة بهم بشكل مباشر على الحدود، في الاراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا (على الرغم من انّ الاخيرة لم تكن تشكل تهديداً حيوياً لها)، وليس من المستغرب ان يصل الدور الى العراق واليمن، فيما مصر والاردن اعتادتا على التعامل مع الاسرائيليين بحكم الاتفاقات الموقعة بينهما.
احتلت اسرائيل، للاسف، المنطقة كلها من دون الاضطرار ان تتواجد ميدانياً على اراضي الدول "المحتلة"، فقد تم تنصيبها "وصية" على كل المنطقة، فلا يحصل شيء من دون موافقتها او رضاها، وفي ظل هذا الوضع ليس مفاجئاً ان يتم التطبيع معها من قبل كل الدول العربية من دون استثناء، وان تكرّس نفسها زعيمة المنطقة.
ولكن، واحقاقاً للحق، لا بد من الاشارة الى ان هذا الوضع وان طال، فهو لن يستمر للابد، فاسرائيل تعرف جيداً كيف تغذّي الحقد عليها من خلال ممارساتها، ويجب عليها التعامل مع اجيال ستنمو في فلسطين ولبنان تحمل معها آثار الاجرام الاسرائيلي جسدياً ونفسياً، في حلقة خبيثة لن تنكسر...