بعد قرار "الاله الاميركي الارضي" منح الغفران الكامل لابو محمد الجولاني عن مسيرته السوداء الملطخة بالدماء، وبعد اعلانه التوبة عن اعماله، توافدت البعثات العالمية الى سوريا للقاء المسؤول الجديد الذي تم تنصيبه رئيساً بدل رئيس النظام الظالم بشار الاسد، والتفاوض معه حول العلاقة الجديدة المفترضة بين سوريا بقيادته الصورية وقيادة اميركا وعدد قليل من الدول الاخرى الفعلية. وفي خضم هذه الهجمة الدولية للقاء الجولاني، كان لافتاً قيام مسؤولين لبنانيين بزيارة الى العاصمة السورية واخذ الجولاني "بالاحضان"، وهذا ما فعله الوزير السابق وليد جنبلاط الذي توجه على رأس وفد اشتراكي ودرزي الى "قصر الشعب"، فيما يدور حديث عن نية مسؤولين رسميين وحزبيين وسياسيين لبنانيين القيام بالامر نفسه في وقت ليس ببعيد.
في المبدأ والمنطق، لا يجب لقاء الجولاني ولا حتى التعاطي معه من قبل اي لبناني، لا بل يجب ادانة كل من يتعامل معه، فهذا الشخص هو نفسه الذي لطّخ يداه بدماء لبنانيين ومنهم عسكريين تم اعدام بعضهم بدم بارد. ليس الهدف نكء الجراح، بقدر ما هو لفت الانتباه الى مدى الغطرسة السياسية الاميركية في العالم، والتي حوّلت هذه الشخصية من ارهابي الى "غاندي" العصر الجديد. قد يقول البعض انه يجب منح فرص ثانية الى الاشخاص لتغيير شخصيتهم والدرب الذي يسيرون عليه، وهو كلام حق، انما بعد ان يكونوا قد دفعوا ثمن ما اقترفوه خصوصاً اذا كانت هذه الاعمال تندرج ضمن الفظاعات... وفي هذه الحالة، لم يتم دفع اي ثمن بل الاكتفاء بشطبة قلم حررت بموجبه الادارة الاميركية الجولاني من ثقل الارهاب وشطبت الجائزة التي كانت موضوعة على رأسه، ونقلته من خانة الارهاب الى خانة المسؤول السياسي...
لا يمكن لاحد ان يمحو ما حصل، فالتاريخ ليس خاضعاً لارادة الناس لتغييره، ولكن الواقع يفرض على الجميع التعامل مع من يحظى برضى المسؤولين الاميركيين، أكان ارهابياً ام مجرماً ام سارقاً... من هنا، سيكون على اللبنانيين التعامل مع الجولاني، وفيما يذهب البعض الى هذا الخيار من دون اي عائق، يرى آخرون ان هذه العلاقة ستقوم على قاعدة "مرغم اخاك لا بطل"، فالقرار واضح باعطاء حيثية للجولاني غير قابلة للعزل، ولا بد من التعامل معه. وعلى الرغم من ذلك، فربما كان من الافضل التريث قليلاً قبل الاندفاع بحماس الى لقائه، غير انه يبدو ان الوقت وتسارع الاحداث دفعا بجنبلاط الى الاستعجال للحفاظ على الوجود الدرزي في سوريا ومنع حصول انشقاقات ضمن هذه الطائفة.
لن تتغيّر صورة الجولاني لدى العديد من اللبنانيين مهما قال ومهما فعل ومهما كانت شهادات العالم فيه، غير انه ليس من المنطقي مقاطعته، فهو الذي يحظى بالدعم الاقليمي والدولي وحتى الشعبي، ولا يمكن تجاهله. والمطلوب في هذه الحالة، على الاقل عدم الهرولة، وافهام الجميع ان اللبناني لم ينسَ ولكنه مضطر للتعامل مع الواقع الذي نشأ على حدوده، تماماً كما اضطر للتعامل مع نظام الاسد (بخلاف البعض الذي لم يكن لديه مشكلة في التواصل مع نظام مجرم)، وبالاخص انه في هذه الحالة لا يملك الجولاني قراره، وليس عليه "التنظير" حول اهتمامه بلبنان، فليهتم بسوريا وتعزيزها ونهضتها وعدم تقسيمها، ولتكن العلاقة مع لبنان محكومة بحسن الجوار والمصالح المشتركة، وكل ما عدا ذلك سيدخل في باب المزايدات والكلام الفارغ الذي لا جدوى منه، فالثقة غير موجودة بشخص يحاول تقديم نفسه على عكس ما هو معروف عنه، ونأمل جميعاً ان يكون قد تغيّر بالفعل لا بالقول، من اجل السوريين اولاً، كي لا يكونوا قد انتقلوا من معاناة الى اخرى.