ان لم تستح فافعل ما تشاء. هذا المثل المعروف تغيّر مع اسرائيل، فاصبح المثل: اذا لم يوقفك احد فاعتمد الوقاحة والعربدة. انها اقل ما يمكن قوله من كلمات بالنسبة الى التصرفات الاسرائيلية في الجنوب اللبناني بعد اتفاق الهدنة او وقف العمليات العسكرية او اي تسمية اخرى.
لم تلتزم القوات الاسرائيلية ببنود الاتفاق الذي ضمَنَه المبعوث الاميركي آموس هوكشتاين شخصياً باسم الرئيس الاميركي جو بايدن و"هيبة" الولايات المتحدة ودعم اوروبا ومجلس الامن والعالم اجمع. وبعد اسابيع على هذا الاتفاق، وفيما كان من اللازم ان تصبح العديد من القرى والبلدات الجنوبية تحت سيطرة الجيش اللبناني والقوات الدولية، بقيت اسرائيل "تتمختر" في هذه المناطق وتقصف وتقتل وتخطف وتفجّر، وتستمتع بالتواجد في اماكن كانت فقط تحلم في الدخول اليها. وبغض النظر عن مسؤولية حزب الله والدولة اللبنانية عن الوصول الى هذا الواقع المرير، وفي حين اشتكت "اليونيفيل" (لا اعلم الى من موجهة الشكوى في الاصل) من ان اسرائيل تخرق الاتفاق، قلبوا المسؤولون الاسرائيليون الواقع وغيّروا الحقائق الى اكاذيب، واظهروا الجيش اللبناني وكأنه غير آبه باستعادة المناطق الجنوبية، ولم يكتفوا بذلك بل حذّروا من انهم لن يلتزموا بمهلة الـ60 يوماً المحددة في الاتفاق اذا بقي الجيش بهذه "اللامبالاة".
ماذا يمكن توصيف هذا التصرف الاسرائيلي سوى انه فجور وعربدة ووقاحة؟ هو الاسرائيلي نفسه الذي كان قبل سنوات واشهر، يخشى مواجهة اللبنانيين (وليس فقط حزب الله)، ولكن بعد الضوء الاخضر الذي تم اعطاؤه للبدء بتدشين الشرق الاوسط الجديد، اصبحت اسرائيل اكثر ثقة وقوة وباتت تحكم "باسم الوالي"، ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة ككل، فمن الذي يجرؤ اليوم على الوقوف في وجهها؟.
وفي عودة الى الشكوى الاسرائيلية على الجيش اللبناني، فهي تهدف الى امرين: الاول اضعاف هيبة الجيش والقوات الدوليّة، لان اي تحرك من قبلهما لا يمكن ان يتم من دون موافقة القوّات الاسرائيلية التي لا تتورع عن استهدافهما، اذا رغبت بذلك، مع علمها المسبق ان احداً لن يردّ على هذا الاستهداف، ولا حتى حزب الله... ومن خلال هذا التصرف، يصبح الجيش واليونيفيل عاجزين عن القيام بدورهما الطبيعي، بموافقة وعلم ومباركة واشنطن والقوى الدولية التي لا تحرّك ساكناً، وتكتفي بكيل عبارات الدعم والمديح والتقدير لكل من المؤسسة العسكريّة اللبنانيّة والقوّات الدوليّة العاملة في الجنوب، فقط لا غير.
اما الامر الثاني الذي ترغب فيه اسرائيل، فهو اضعاف الثقة اللبنانيّة بالجيش، لانها تحاول اظهاره وكأنه غير مستعجل لاسترجاع الاراضي اللبنانيّة، وهو ما تراهن على انه سيولّد نقمة وحقداً على المؤسسة العسكرية من قبل الجنوبيين انفسهم، علّه يؤدي الى انشقاق داخلي طال انتظاره، فينقلب الناس على الجيش ويفقد لبنان بالتالي آخر ركيزة يمكن الرهان عليها للانطلاق بمسيرة النهوض والتجدد، فيقبع في ظلمة الاحداث التي لا تنتهي، ويخرج من المعادلات في المنطقة بشكل نهائي، ويضم مصيره الى مصير سوريا المجهول.
ارتاح اللبنانيون من الهمجيّة الاسرائيليّة في استهدافهم بمباركة عالميّة، ولكنهم ايقنوا اليوم الثمن الذي دفعوه وهو غالٍ جداً، وبات الاهتمام منصباً على وقف الغطرسة الاسرائيليّة وعدم تطورها، وعلى الجهة التي يجب التوجه اليها للحصول على الامان والاطمئنان من "نشوة الانتصار" الاسرائيلي، بعد ان اظهرت الامم المتحدة ومجلس الامن عجزهما، وخدعة واشنطن للبنان، وصمت الاوروبيين والعرب على الممارسات الاسرائيلية.
ليصح بذلك ما بات اللبنانيون يردّدونه بأعلى صوتهم: رضينا باسرائيل... واسرائيل لم ترضَ بنا.