منذ اليوم الأول لدخول اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيّز التنفيذ، لا يكاد يمرّ يوم واحد لا تُسجَّل فيه سلسلة خروقات إسرائيلية للاتفاق، تارةً عبر تقدّم القوات الإسرائيلية في منطقة حدوديّة معيّنة، وطورًا عبر قصف موقعٍ من هنا أو هناك، أو استهداف سيارة أو دراجة نارية، فضلاً عن حرمان عدد كبير من أهالي القرى الجنوبية من العودة إلى بيوتهم، وكلّ ذلك على مرأى ومسمع من الجهات التي كان يفترض أن تكون "ضامنة" للاتفاق.
وبدل أن تتراجع وتيرة الخروقات الإسرائيلية بشكل "تدريجي"، انطلاقًا من مهلة الستين يومًا التي نصّ عليها الاتفاق، بدا أنّها تتصاعد أكثر فأكثر، بدليل أنّها في الأيام الأخيرة بلغت ذروتها، تزامنًا مع مرور نصف هذه المهلة، وهو ما ترجم باستهداف مناطق بقاعية للمرّة الأولى منذ إبرام الاتفاق، ولكن أيضًا بالتوغّل البري في مناطق بعيدة نسبيًا عن الحدود، على غرار منطقة وادي الحجير الرمزية، ما اضطر أهاليها إلى النزوح منها مرّة جديدة.
على الضفة اللبنانية، لا خروقات تُذكَر للاتفاق باستثناء الردّ "الشكليّ" الوحيد الذي نفّذه "حزب الله" في الأيام الأولى، تحت شعار "أعذر من أنذر"، من دون أن ينفّذ "الإنذار"، ليركن بعد ذلك إلى الدولة اللبنانية، ويترك لها أمر معالجة الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية، وهو ما أكّده الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في أكثر من خطاب، ما أوحى بأنّ الحزب آثر اعتماد سياسة "ضبط النفس"، أو ربما أراد رمي الكرة في ملعب "الدولة".
إلا أنّ تصاعد وتيرة الانتهاكات في الأيام الأخيرة، رفع أيضًا سقف خطاب الحزب، وهو ما تجلّى في التصريح المقتضب للنائب علي فياض، الذي دعا إلى إعادة تقويم الموقف ومراجعة الأداء الحالي الذي أظهر "فشلاً ذريعًا في الحدّ من الإمعان الإسرائيلي"، ليفتح الباب أمام العديد من علامات الاستفهام، فهل يصبح احتمال تجدّد الحرب الذي لا تزال الأوساط السياسية تتحّسب له، أمرًا واقعًا، وهل تستدرج إسرائيل لبنان فعلاً لمثل هذا السيناريو؟!
في المبدأ، ليس خافيًا على أحد أنّ إسرائيل تتصرّف منذ التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وكأنّه وقف للنار من طرف واحد، بدليل أنّها تواصل خروقاتها له من دون حسيب أو رقيب، ولعلّها تسعى من خلال ذلك إلى تثبيت منطق "حرية التصرف" التي قالت إنّها احتفظت بها بموجب الاتفاق، ولو لم ينصّ عليها صراحةً، وبالتالي إلى ضرب سرديّة "الانتصار" التي يرفعها "حزب الله"، فيما يضطر للتطبيع مع اعتداءات يومية لا تتوقف.
يظهر ذلك جليًا في الأداء الإسرائيلي منذ أكثر من شهر من الآن، فصحيح أنّ وتيرة العمليات العسكرية تراجعت إلى حدّها الأدنى، وحُيّدت مناطق كثيرة عن مسرحها، بما في ذلك العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية التي استعادت "شبه" حياة طبيعية، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ ما يدور حاليًا يذكّر بالمرحلة ما بين تشرين الأول 2023 وأيلول 2024، أي مرحلة "جبهة الإسناد"، ولكن من جانب واحد، هو الجانب الإسرائيلي حصرًا هذه المرّة.
وفي وقتٍ يترك "حزب الله" للدولة اللبنانية أمر معالجة الخروقات الحاصلة، مستجيبًا ربما للضغوط الداخلية والخارجية، ورافضًا توفير "ذريعة" لإسرائيل للعودة إلى الحرب، لا تتردّد إسرائيل في "إحراجه" إلى أقصى حدّ، وهي تتصرّف كأنّها "مطلقة اليدين" في لبنان، فتواصل إصدار التحذيرات، وتتوغّل حيث تشاء، بالتوازي مع نسف المباني وتدمير البيوت، بذريعة جاهزة أنّها لـ"حزب الله"، من دون أن يطالبها أحد بتقديم الدليل.
وكأنّ كلّ ذلك لا يكفي، تتعمّد إسرائيل بالتوازي مع الخروقات والانتهاكات، تسريب معطيات "خطيرة" عن نيّتها إبقاء قواتها في الجنوب اللبناني، حتى بعد انقضاء مهلة الستين يومًا، وهو ما ورد في الأيام الأخيرة في العديد من الصحف الإسرائيلية، التي تحدّثت أيضًا عن إقامة سواتر ترابية ومناطق عازلة على الحدود، تسمح للإسرائيليين بمراقبة كلّ ما يجري، وهي تسريبات قد تندرج في إطار "الحرب النفسية" التي يبدو أنها مستمرة فصولاً.
صحيح أنّ الأداء الإسرائيلي قد لا يوحي بوجود "رغبة" بالعودة إلى زمن الحرب، باعتبار أنّ ما تحقّقه إسرائيل في الوقت الحالي، لم تكن قادرة على تحقيق الكثير منه في وقت الحرب، بما في ذلك التوغّل في وادي الحجير مثلاً، إلا أنّه يطرح تساؤلات بالجملة عن الأهداف "المضمرة" من خلفه، خصوصًا أنّه ينطوي على "استفزاز" يخشى كثيرون أن يؤدي إلى انفلات الأمور في أيّ لحظة، وبالتالي إلى تجدّد الحرب، في سيناريو يشبه اندلاعها، في لحظة غير محسوبة.
حتى الآن، يستبعد العارفون هذا السيناريو، رغم الكثير من "الفرضيات" التي تدفع باتجاهه، من بينها مثلاً أنّ العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في سوريا، تريد استكمالها في لبنان، فهي استغلّت لحظة انهيار النظام، لتوسّع عملياتها على الأراضي السورية، بهدف قطع "طريق الإمداد" التي كان يعتمد عليها "حزب الله"، وبالتالي فهناك من يعتقد أنّها لن تتأخّر في الانقضاض على الحزب، قبل أن ينجح في تأمين "بديل" للخسارة التي مني بها.
إلا أنّ العارفين يشيرون إلى أنّ إسرائيل تفتقد إلى "الذريعة" لمثل هذا الخيار، أقلّه حتى الآن، ولا سيما أنّ الضغوط نجحت في ثني "حزب الله" عن القيام بأيّ رد فعل على الاستفزازات الإسرائيلية، ليكتفي بإصدار البيانات المندّدة، أو رفع السقف في التصريحات، كما حصل أخيرًا، علمًا أنّ هناك من يسجّل استبدال النائب علي فياض معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، بـ"الجيش والحكومة والجهات المعنية"، في مفارقة تبدو مثيرة للانتباه.
وبحسب العارفين، فإنّ الخيار اللبناني في المرحلة الحالية، يبقى "المقاومة الدبلوماسية" إن صحّ التعبير، وذلك من خلال توثيق الخروقات الإسرائيلية للاتفاق، ومطالبة الجهات الدولية، ولا سيما لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، بالتحرك من أجل وضع حدّ لها، علمًا أنّ كل المعطيات الرسمية التي يتبلغها لبنان من الوسطاء، ولا سيما الأميركي والفرنسي، تشير إلى أن لا عودة إلى الوراء، وأنّ الاستقرار يجب أن يسود بعد انقضاء مهلة الستين يومًا.
وإضافة إلى كلّ ما تقدّم، ثمّة من يربط مصير الميدان باستحقاقين أساسيّين، أولهما وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب في كانون الثاني المقبل، وقبل انقضاء مهلة الستين يومًا، وثانيهما، ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية قبل تاريخ 27 كانون الثاني المقبل، علمًا أنّ هناك من يؤكد أنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي خلال مهلة الستين يومًا هو جزء "مستتر" من الاتفاق، وأنّ الإخلال به قد يجعل الاتفاق برمّته "باطلاً"!