يلتصق بعيد الميلاد المجيد عيدٌ جامع لوالدة الإله، ويقع في اليوم التالي للميلاد، لأنَّ مريم العذراء ولدته في الجسد. وتذكار القدِّيس يوسف خطِّيب مريم في الأحد الَّذي يلي عيد الميلاد، لأنَّ يوسف له علاقة مباشرة بالحدث الإلهيّ، ودوره كان كبيرًا جدًّا ومهمًّا جدًّا.
هناك أمر محوريٌّ في كلٍّ من عيد الميلاد ووالدة الإله ويوسف، وهو التواضع الأقصى الَّذي يولِّد الطاعة الكاملة لمشيئة الله.
ففي عيد الميلاد نرى يسوع لم ينحدر إلى مذود البهائم فحسب، بل إلينا نحن الخطأة، كما عبَّر المغبوط الذكر الأرشمندريت إلياس مرقس -رحمه الله- وذلك لينتشلنا من جحيم سقطاتنا المميتة ويعطينا الحياة الأبديَّة إذا اتَّحدنا به، وكنَّا من الَّذين حقًّا يصرخون من عمق قلوبهم: «المجد للَّه في العلى وعلى الأرض السلام وفي أناس المسرَّة». فالله نزل إلينا ليرفعنا كما تُناشدنا كاطافاسيَّات الميلاد: «المسيح وُلِدَ فمجِّدوه، المسيح أتى من السموات فاستقبِلوه، المسيح على الأرض، فارتفِعوا». فإذا لم نرتفع، لا نكون في الميلاد، ولا في حدثه الخلاصيِّ.
ودائمًا في التواضع، يخاطبنا الإنجيليُّ متَّى في نبوءته الخامسة عن المسيح، عن التواضع الأقصى الَّذي تمَّمه الربّ بصيرورته إنسانًا مثلنا ما خلا الخطيئة، فيقول عن يسوع: «وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يَتِمَّ ما قيل بالأنبياء: إنَّه سيُدعى ناصريًّا» (متَّى 2: 23).
يقول متَّى: «الأنبياء» وليس: «النبيّ» كما سبق وذكر في النبوءات الأربع قبلًا (الإصحاح الأوَّل والثاني). وإذا قمنا وبحثنا في أسفار العهد القديم لا نجد هذه النبوءة، فمن أين يا ترى جاء بها؟ ولماذا ذكر الأنبياء؟
الجواب يكمن في معنى الكلمة «نَاصِرِيًّا Nazōraios -Ναζωραῖος» الَّتي هي ترجمة للكلمة العبريَّة «نتزرات Natzrat» وتُلفظ قريبة من «نثرات» في اللغة العربيّة، وتعني الغصن أو الفرع أو البرعم، ويُتوقَّع أن تكون كلمة «نثرة» في لغتنا اليوم قد أتت منها. فالمعنى المقصود إذًا هو الشيء الصغير، وقد شاع عند اليهود أن لا قيمة له. من هنا كان جواب نَثَنَائِيلُ لفيلبُّس: «أَمِنَ الناصرة يُمكن أن يكون شيء صالح؟» (يوحنَّا 1: 46)، وذلك عندما قال له بأنَّهم وجدوا الَّذي كتبَ عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوعَ ابنَ يوسفَ الَّذي من الناصرة. والناصرة هي في الجليل الَّذي يُعتبر بالنسبة إلى اليهود مرذولًا لأنَّه خليط الأمم وغير صافي العرق. وهناك مفارقة لافتة وهي أنَّ موقع الناصرة هو على جبل وبشكل معزول.
المعنى اللاهوتيُّ العميق نجده عند إشعياء النبيِّ بشكل خاصٍّ: «ويخرج قضيب من جذع يسَّى، وينبُت غصن من أصوله» (إشعياء 11: 1). فيسوع هو ابن داود الَّذي هو ابن يسَّى، ومن عائلة صغيرة متواضعة جدًّا. وأيضًا: «في ذلك اليوم يكون غصنُ الربِّ بهاءً ومجدًا» (إشعياء 4: 2)، وعند إرمياء النبيِّ: «ها أيَّامٌ تأتي، يقول الربُّ، وأُقيم لداود غصنَ بِرٍّ، فيَملِكُ ملكٌ وينجح، ويُجري حقًّا وعدلًا في الأرض» (إرميا 23: 5)، وعند زكريَّا النبيِّ: «فاسمعْ يا يهُوشَعُ الكاهن العظيم أنت ورُفَقاؤكَ الجالسون أمامك، لأنَّهم رجال آية، لأنِّي هأنذا آتي بعبدي الغصنِ» (زكريَّا 3: 8)، ويقول أيضًا: «وكلِّمْهُ قائلًا: هكذا قال ربُّ الجنود قائلًا: هوذا الرجلُ «الغُصنُ» اسمُه. ومن مكانه يَنبُت ويبني هيكلَ الربِّ» (زكريَّا 6: 12). فهيكل الربِّ الحقيقيُّ هو يسوع نفسه الَّذي قال: «انقُضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيَّام أُقيمه»، وكان يتكلَّم عن هيكل جسده (يوحنَّا 2: 18-21).
لنتأمَّل كيف وُلِدَ ربُّ المجد في مغارة معزولة وفي مذود البهائم ليعلِّمنا التواضع. أمَّا والدة الإله فعاشت هذا التواضع، وكان سرَّ قداستها، فقالت: «تعظِّم نفسي الربَّ، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي، لأنَّه نظر إلى اتِّضاع أَمَتِه» (لوقا 1: 46-48)، وأكملت: «فهُوَذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبُني». ونحن نطوِّبها على هذا الأساس، فهي من جنسنا تمامًا ولا عذر لنا كيلا نحذو حذوها.
يوسف خطِّيب مريم، ذلك الشيخ الجليل، كان أيضًا مثالًا كبيرًا للتواضع والخدمة. كان مثل العذراء مصغيًا إلى كلمة الربِّ وعاملًا بها. لهذا نكرِّمه في خدمته تكريمًا عظيمًا قائلين: «يا يوسف بشر داود جدِّ الإله بالعجائب الباهرة. لأنَّك قد رأيت بتولًا حاملًا، فمع الرعاة مجَّدت، ومع المجوس سجدت، وبالملاك أوحِيَ إليك، فابتهِل إلى المسيح الإله أن يخلِّص نفوسنا».
إلى الربِّ نطلب.