مسيرة حياتنا الأرضيَّة تكون لها قيمة إن سارت على طريق الحقِّ الَّذي هو الربُّ يسوع المسيح. هي مسيرة صعود نحو أورشليم السماويَّة وفي خلالها نموت على الصليب المقدَّس لنرتفع مع الربِّ. هذا ما يخبرنا إيَّاه اليوم التالي لعيد الظهور الإلهيِّ، عيد الغطاس، والَّذي نقيم فيه تذكارًا جامعًا للقدِّيس يوحنَّا المعمدان (7 ك2)، والملقَّب بالصابغ لأنَّه عمَّد المسيح، من المصدر «الاصطباغ» أي التغطيس الكامل، وأيضًا بملاك الصحراء تحقيقًا لنبوءة ملاخي (ق 5 ق م): «هاءنذا أُرسِل ملاكي فيهيِّئ الطريق أمامي. ويأتي بغتةً إلى هيكله السَّيِّدُ الَّذي تطلبونه، وملاكُ العهد الَّذي تُسَرُّون به. هوذا يأتي، قال ربُّ الجنود» (ملا 3: 1)، وبالسابق لأنَّه خاتمة الأنبياء، لهذا توضع أيقونته على حائط الأيقونات Iconostase في الكنيسة على يسار أيقونة يسوع.
القدِّيس يوحنَّا المعمدان يعلِّمنا الكثير، بدءًا بما أعلنه: «ينبغي أنَّ ذلك (يسوع) يزيد وأنِّي أنا أنقُص» (يوحنَّا 3: 30). وقد شهد يوحنَّا أنَّ يسوع هو الإله قبل كلِّ الدهور، وتجسَّد، وذلك بقوله عنه: «هذا هو الَّذي قلتُ عنه: إنَّ الَّذي يأتي بعدي صار قدَّامي، لأنَّه كان قبلي» (يوحنَّا 1: 15)، لأنَّ يسوع سيعمِّد الشعب بالروح القدس ونار، وليس مثله بماء للتوبة.
نعم، هذا ما حصل مع التلاميذ في العنصرة: «وظهرت لهم أَلسِنةٌ منقسمة كأنَّها من نار، واستقرَّت على كلِّ واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس» (أعمال 2: 3-4).
كذلك يعلِّمنا يوحنَّا قول الحقِّ حتَّى الاستشهاد وعدم المواربة من أجل الحفاظ على أنفسنا أو مراكزنا، أو من أجل استفادة أرضيَّة ما، عملًا بما قاله الربُّ لنا عندما دعانا جميعًا أن ننكر أنفسنا ونحمل صليبنا ونتبعه: «لأنَّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟» (مر 8: 36). والقدِّيس يوحنَّا هو خير مثال لتحقيق الآية.
هذا هو طريقنا الوحيد لنكون مسيحيِّين حقًّا. قد نتذمَّر أحيانًا من جرَّاء ضعفنا البشريِّ وطلبنا للراحة، ولكنَّ الثبات هو في المتابعة، لهذا يقول الآباء القدِّيسون أنَّه ليس من السهل إطلاقًا أن يكون المرء مسيحيًّا.
للقدِّيس يوحنَّا المعمدان أيقونات متنوِّعة، منها ما تُظهره يعمِّد الربَّ، ومنها ما تُظهره بمفرده، وهناك أيقونة الشفاعة Déisis حيث نرى الربَّ يسوع المسيح في الوسط وعن يمينه والدة الإله رافعة يديها الاثنتين متضرِّعة، وعن يسار يسوع يوحنَّا في وضعيَّة شبيهة بمريم العذراء.
وجه القدِّيس يوحنَّا في أيقوناته يلخِّص سيرة حياته وجهاده النسكيِّ وعيشه في البرِّيَّة، كذلك تبرز صلابته وتمسُّكه بكلمة الله. قد يقول البعض إنَّ ملامحه خشنة لكنَّها في الحقيقة هي ملامح المُحارب الشجاع الَّذي لا يعرف الكلل، هو المستقيم الرأي، والبعيد كلَّ البُعد عن المواربة والمحاباة، والمعلن الاستقامة علانيَّة. وبالرغم من كلِّ هذه الصفات الَّتي كان يتحلَّى المعمدان بها إلَّا أنَّها كانت تترأَّسها فضيلة التواضع الَّتي هي أمُّ الفضائل. ومن يمتلكها يرتفع في عين الله ومن يخسرها ينخفض لا محالة.
كذلك، بالرغم من كلِّ ما نشاهده من قساوة في وجهه، إلَّا أنَّ وجهه نورانيٌّ وصافٍ لا يوجد فيه زغل. وهناك فرح كبير خصوصًا في الأيقونات الَّتي نراه فيها حاملًا رأسه المقطوع عندما حكم عليه هيرودس بالموت تنفيذًا لوعده الَّذي قطعه لصالومي ابنة هيروديا، الَّتي كانت تريد أن تتخلَّص من المعمدان لاعتراضه على زواجها من هيرودس لأنَّها كانت زوجة أخيه.
أيضًا قد يستغرب البعض كيف يكون هناك فرح ورأسه مقطوع. الجواب أنَّ صدقه أوصله لهذا، وهذا فخره، لأنَّ الموت الجسديَّ هو لا شيء أمام الحياة الأبديَّة الَّتي يعيشها القدِّيسون مع يسوع. وقد أكَّد لنا الربُّ ألَّا نخاف من الَّذي يقتل الجسد وليس له سلطة على الروح، بل أن نخاف أن نخسر الملكوت (مت 10: 28).
وهناك أيقونات له نراه فيها حاملًا صليبًا إشارة إلى الاستشهاد، والصليب هو راية الغلبة والانتصار.
الشَعر الطويل للمعمدان في الأيقونة، الَّذي يشير إلى حياته النسكيَّة، يميِّزه عن غيره، كذلك لباسه الَّذي كان من وَبَرِ الإبل، وعلى حقوَيه منطقة من جلد. وكان طعامه جرادًا وعسلًا برِّيًّا.
ختامًا، يدعونا القدِّيس يوحنَّا بصريح العبارة: «أَعِدُّوا طريق الربِّ. اصنعوا سبُلَه مستقيمة» (مت 3: 3). هذا معناه أن نجعل قلوبنا مع الربِّ مستقيمة لا اعوجاج فيها ولا ازدواجيَّة، ولا نتكنَّى باسمه كذبًا وجزافًا، وإن أخطأنا، وجُلَّ من لا يخطئ، أن نتوب بصدق لنولد من جديد فتكون معموديَّتنا الجديدة.
إلى الربِّ نطلب.