أن يكون تاريخ السابع عشر من شهر كانون الثاني تذكار القدِّيس أنطونيوس الكبير (251-356م) وفي اليوم التالي تذكار القدِّيسين أثناسيوس (296/8-373م) وكيرللس (376-444م) الكبيرين رئيسي أساقفة الإسكندريَّة، أن يكون ذلك، هو ليس مصادفة على الإطلاق. فالأوَّل هو منارة للرهبان ومعلِّم التواضع، والآخران مدافعان عن العقيدة والإيمان المستقيم ويلقَّبان بعمودَي الإيمان. فليس من انفصال بين حياة التخلِّي عن كلِّ شيء والتمسُّك بالربِّ أوَّلًا وبين عيش العقيدة والدّفاع عنها في وسط العالم، وتأكيدًا لذلك نجد أنَّ القدِّيس أنطونيوس لم يتردَّد لحظة في الخروج من منسكه في عمق البرِّيَّة في مصر والمجيء إلى الإسكندريَّة ليقف في وجه هرطقة الأريوسيِّين الَّذين نكروا ألوهة الربِّ يسوع المسيح. وكان دخوله المدينة بمثابة زلزال لأنَّ سيرة قداسته كانت قد سبقته. فتدافع الناس لأخذ بركته ووصفوه بأنَّ وجهه كان يشعُّ نورًا.

كذلك نجد القدِّيسَين أثناسيوس وكيرللس قد ترجما إيمانهما باستقامة الإيمان حياة مَعيشة، فعاشا عيشة النسَّاك ولم يطلبا مجدًا أرضيًّا ولم يسعيا ليتبوَّآ مراكز سلطة. وحوَّلا كسبهما للعلم والمعرفة لخدمة الربِّ معتبرين أنَّ كلَّ معرفة هي باطلة إن لم تكن في خدمة القدّوس. كانا فصيحَي الوعظ ولكن في الوقت نفسه متواضعان يهربان من فخِّ الانتفاخ القاتل.

القدِّيس كيرللس طالب الشعبُ به بطريركًا وكذلك الإكليروس بإجماع كبير، فما كان منه إلَّا القبول طاعةً وهو يؤكِّد عدم استحقاقه.

كذلك نجد أنَّه عندما نادى بطريرك الإسكندريَّة ألكسندروس على فراش الموت باسم أثناسيوس ليخلفه، أعلموه بأنَّ الأخير قد هرب معتبرًا نفسه غير مستحقٍّ لذلك، فقال ألكسندروس مخاطبًا أثناسيوس غيابيًّا: «هل تظنُّ أنَّ هروبك سيجعلك تنجو...؟ لا».

نعم، من هذا التخلِّي تكون البداية، بداية المسيرة المتوَّجة بالمحبَّة الشاملة المبنيَّة على كلمة الربِّ والمغلَّفة بأمِّ الفضائل، ألا وهي التواضع. ومن التخلِّي تنبثق القرارات الحكيمة والمسلك المستقيم لتحقيق مشيئة الله البعيدة كلَّ البعد عن المصالح الذاتيَّة، فتتحقَّق بما يقوله الكاهن في القدَّاس الإلهيِّ عن الأسقف: «اذكُر يا ربُّ أوَّلًا أبانا ورئيس كهنتنا فلان وهبه لكنائسك المقدَّسة بسلام، صحيحًا، مكرَّمًا، معافًى، مديد الأيَّام، مفصّلًا باستقامة كلمة حقك». فالسّلام هو إقتناء سلام الرّب، والتكّريم هو لعيشه كلمة الرّب، والعافية هي عافية الذهن المستنير، وطول السنين هي الحياة الأبديّة مع يسوع، والفصل هو عدم شركة الحق مع الباطل.

فلكي يستطيع رئيس الكهنة أن يفصل كلَّ مواربة وانحراف لتقوم كلمة الحقِّ، عليه أوَّلًا أن يكون قاطعًا مشيئته وأهواءه هو، وفاحصًا ضميره على ضوء الإنجيل ليكون مسلكه مسلك الربِّ، وذهنه مستنيرًا، راميًا تحت قدميه كلَّ مدح ومجد أرضيٍّ، طالبًا مجد الصليب الَّذي يعلِّقه على صدره. هذا المجد العريان من كلِّ دجل ومحاباة وشطط، مجد طعمه مرٌّ في البداية ولكنَّه حلاوة ما بعدها حلاوة، كما قال لنا الربُّ: «ادخُلُوا من الباب الضيِّق، لأنَّه واسع الباب ورَحْبٌ الطريق الَّذي يؤدِّي إلى الهلاك، وكثيرون هم الَّذين يدخلون منه! ما أضيق الباب وأَكرَبَ الطريق الَّذي يؤدِّي إلى الحياة، وقليلون هم الَّذين يجدونه!» (متَّى 7: 13-14). وهذا ينطبق على كلِّ إكليليريكيٍّ وحتَّى على كلِّ مؤمن.

هذا ما عاشه القدِّيس أثناسيوس الكبير، فما كان نفيه خمس مرَّات في فترة سدَّته البطريركيَّة، والَّذي يعادل حوالي نصف المدَّة الَّتي تبوَّأ فيها مسؤوليَّته، إلَّا سيرًا على خطى الربِّ وتأكيدًا لاستقامة حياته الَّتي لخَّصها بجملته الشهيرة: «ليس العالم ضدِّي بل أنا ضدّ العالم». وكان الشعب المؤمن يرفض استبداله في فترات نفيه المتقطِّعة.

القدِّيس أثناسيوس الكبير لا يشرح لنا العقيدة فحسب بل كانت حياته مثالًا لكلِّ من تبوَّأ مسؤوليَّة رعاية خراف المسيح. ألقابه الَّتي لُقِّبَ بها لم تدغدغه على الإطلاق، ولم يسعَ إليها أصلًا بل كان يعتبر نفسه أصغر الخدَّام طالبًا رحمة الربِّ القدُّوس.

لقبه الأكثر شيوعًا كان «أبونا»، وقد خرج من عمق قلب المؤمنين، إكليريكيِّين وغير إكليريكيِّين، فكان الَّذي يعرفه والَّذي لا يعرفه يناديه هكذا لأنَّه كان يشعر بحقيقة أبوَّته. فلا عجب أن اعتبره القدِّيس باسيليوس الكبير أسقف الأساقفة.

​​​​​​​أثناسيوس تعرَّض لاضطهاد كبير ولم يعرف الرّاحة إلَّا قليلًا، وكانت بمثابة استراحة المحارب. ولكن في العمق لم تكن الحرب ضدَّه بل ضدّ الكنيسة. فهرطقة أريوس الَّتي رفضت ألوهة يسوع واجتاحت الكنيسة كانت تعتبر أثناسيوس عدوَّها اللدود، وذلك منذ أن برز كمُدافع أوَّل في المجمع المسكونيِّ الأوَّل في نيقية (العام 325م) في وجه أريوس، وكان أثناسيوس في وقتها شمَّاسًا يرافق بطريركه ألكسندروس.

كذلك لم يتوانَ قدِّيسنا في استعمال وسائل عصره لدحض تعاليم أريوس المنحرفة، خصوصًا أنَّ الأخير ألَّف أناشيد شعبيَّة لنشر هرطقته، فما كان من قدّيسنا أن ردَّ عليه بالمثل بأناشيد مستقيمة الإيمان.

الحرب ضدَّ المسيح لم تتوقَّف ولن تتوقَّف، وواجبنا أن نخوضها بعزم وثبات متسلِّحين بنعمة المسيح وقوَّته، تمامًا كما فعل أثناسيوس حتَّى الرمق الأخير من حياته.

فقد ترك لنا مؤلَّفات كثيرة، منها رسالة إلى الوثنيِّين كأنَّها كُتبت لعصرنا اليوم. لا عجب في ذلك إطلاقًا لأنَّ صراع الوجود ما زال هو هو منذ بدء التكوين، وقد تجسَّد الربُّ ليروي عطش كلِّ إنسان.

همُّ أثناسيوس كان أن تعرف البشريَّة أنَّ يسوع هو الإله الَّذي صار إنسانًا لنقتبل نحن الإلهيَّات، وأن تعيش حقيقة جوهره الواحد مع الآب، وطبعًا مع الروح القدس، وثلاثتهم إله واحد من دون فارق في الزمن والوجود. فكانت كلمته homoussios واحدًا في الجوهر مع الآب وهي الَّتي نقولها في دستور الإيمان.

إلى الربِّ نطلب.