أخيرًا، وبعد انتظار لا يصحّ وصفه إلا بـ"الثقيل"، تمّ التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ينهي حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023، ما جعلها الحرب "الأطوَل" في تاريخ الصراع بالمُطلَق، ولكن أيضًا "الأكثر كلفة"، في ضوء الفاتورة البشرية غير المسبوقة التي خلّفتها، فضلاً عن الأضرار النفسية الهائلة، والمادية أيضًا، بعدما أصبح القطاع الفلسطيني غير صالح للسكن، بلا حدّ أدنى من مقوّمات الحياة.
وبمعزل عن "السجال" المرافق لكلّ الحروب حول مفهوم "الانتصار"، انطلاقًا من مبدأ عدم تحقّق الأهداف المُعلَنة، ولو أنّ تلك غير المُعلَنة التي تحقّقت لا تقلّ شأنًا، فإنّ المفارقة المثيرة للانتباه تكمن في تاريخ دخول الاتفاق حيّز التنفيذ يوم الأحد المقبل، أي قبل يوم واحد من تنصيب دونالد ترامب رسميًا رئيسًا للولايات المتحدة، وهو الذي سبق أن تعهّد في حملته الانتخابية بإنهاء الحرب، قبل أن يهدّد المنطقة بـ"جحيم" لم تشهد مثيلاً له، إذا ما وصل إلى البيت الأبيض قبل التوصّل إلى صفقة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس.
لكنّ ترامب الذي يمنح نفسه "فضل" نهاية الحرب في غزة، يدخل إلى البيت الأبيض على وقع "مشهد جديد" على امتداد المنطقة، بعد تطورات "دراماتيكية" شهدتها على مدى الأشهر الماضية، ففي سوريا مثلاً لا يزال كثيرون عاجزين عن استيعاب كيفية "سقوط" نظام بشار الأسد المفاجئ في غضون عشرة أيام، بعد "صموده" لأربعة عشر عامًا بالتمام والكمال، في وقت لا يزال "الحكم الجديد" قيد الاختبار، على أكثر من صعيد.
أما في لبنان، فمشهد سياسي جديد لا يزال غير مفهوم أيضًا، وإن كان كثيرون يصفونه بـ"الحلم"، باعتبار أنّه حقّق "التغيير" الذي بدا لسنوات طويلة بعيد المنال، وذلك عقب إنجاز الانتخابات الرئاسية بعد فراغٍ كاد يعمّر طويلاً، وتسمية رئيس حكومة من خارج الطبقة السياسية التقليدية، فهل يمكن القول إنّ "اليوم التالي" الذي كثُر الحديث عنه منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة بدأ عمليًا، على أن يتكرّس خلال ولاية ترامب الثانية؟!
الأكيد بحسب ما يقول العارفون، أنّ ما تشهده المنطقة اليوم على مختلف المستويات، يكرّس فعلاً مفهوم "اليوم التالي"، ولو لم يكن بالمعنى الذي أرادت إسرائيل "فرضه" يوم بدأت حربها على غزة ولبنان، فهي لم تنجح بالقضاء بالكامل على "حركة حماس" و"حزب الله" وسائر قوى المقاومة، لكنّها نجحت في "إضعافها" إلى حدّ بعيد، ولم تستطِع أن تُحدِث "انقلابًا" في المشهد، لكنّها بالتأكيد غيّرت الكثير من المعادلات التي كانت قائمة سابقًا.
بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ ما قبل عملية "طوفان الأقصى"، وما قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، لم يعد قائمًا اليوم، فالتغيّرات الهائلة التي شهدتها المنطقة منذ السابع من تشرين الأول 2023، تركت تبعاتها على المنطقة برمّتها، وهذه التبعات لن تنتهي فصولاً مع انتهاء المعارك في غزة، ولا حتى مع اكتمال مراحل الاتفاق المتّفَق عليها، ولا مع انتهاء مهلة الستّين يومًا التي نصّ عليها اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، ولو انتهت معها الانتهاكات.
وإذا كان صحيحًا أنّ "حزب الله" تحدّث عن انتصار حقّقه في الحرب، وكذلك فعلت حركة "حماس"، إلا أنّ المطّلعين يشيرون إلى أنّ كليهما استند في ذلك إلى ما وُصِف بـ"الصمود الأسطوري"، وبالتالي إلى "إجهاض" المخطّط الإسرائيلي المرسوم لهما، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ الحزب والحركة تكبّدا بهذه الحرب خسائر "استراتيجية" لا يمكن القفز فوقها، وهي ستترك ندوبًا سيكون من الصعب مداواتها في وقتٍ قريب.
من هذه الخسائر مثلاً، اغتيال الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي يقرّ المحسوبون على الحزب بأنّ معادلة أنّ "كلّ من يتعرض للاغتيال له بديل" لا يمكن أن تُستخدَم معه، بدليل أنّ اغتياله شكّل "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، لتتراكم بعده الخسائر الكبرى للمحور، سواء على مستوى الحزب الذي افتقد الكثير من نقاط قوته ونفوذه، أو على مستوى أبعد، وصل إلى "الذروة" مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
وعلى أهمية النتائج العسكرية للمعركة، سواء في غزة أو في لبنان، أو حتى في سوريا، فإنّ التبعات "السياسية" لا تقلّ شأنًا، وهي التي يبدو أنّها تلعب دورًا في تكريس مفهوم "اليوم التالي"، خصوصًا في لبنان، الذي يبدو أنّه دخل مرحلة جديدة على كلّ المستويات، بعد انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة، وسط تساؤلات عن موقع "حزب الله" في المعادلات الجديدة، بفعل الهواجس التي عبّر عنها من بعبدا قبل أيام.
في هذا السياق، ثمّة من يتحدّث عن "خسارة" الحزب للكثير من الامتيازات التي كان يتمتع بها سابقًا، فهو على سبيل المثال قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، كان يعطّل الاستحقاق الرئاسي، رافعًا شعار "مرشحي أو لا أحد"، ليبدأ بإظهار "المرونة والليونة" بعد الحرب، من باب ضرورة انتخاب الرئيس، بمعزل عن اسمه، ليلتحق في النهاية بـ"تسوية" كان يمكن التوصل إليها منذ اليوم الأول، وبناء على ما قال إنّها "ضمانات" بدت لحفظ ماء الوجه.
وفي حين استطاع "حزب الله" أن يحفظ حيثيته في استحقاق الرئاسة، بإخراج شكليّ، أراد منه التأكيد على أنّ التوافق الوطني لا يمكن أن يكتمل من دون "الثنائي الشيعي"، فإنّه لم ينجح في تظهير الأمر نفسه في استحقاق رئاسة الحكومة، ليبقى وحيدًا "خارج التسوية" هذه المرّة، بعدما التحق بها "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"التيار الوطني الحر"، ليخرج الحزب بخطاب "صادم" إلى حدّ بعيد، فيه ما فيه من مفردات التقسيم والشرذمة... والميثاقية.
ليس خافيًا على أحد أنّ للحزب هواجسه، في ضوء ما يعتقد أنّه مخطّط جدّي للإطاحة به، أو بالحدّ الأدنى للقضاء على دوره وحيثيّته، لكنّ العارفين يتحدّثون عن "أخطاء" في الحساب والتقدير ارتكبها الحزب، وبدل أن يعالجها في العمق، وهو ما كان متوافرًا له، حوّلها إلى "خطايا" بتكتيك بدا غير مفهومٍ لكثيرين، ولا سيما أنّ الطرف الآخر كان يصرّ على مبدأ الشراكة، ويعلن رفضه منطق الإلغاء والإقصاء.
في النتيجة، يمكن القول إنّ "اليوم التالي" بدأ على الأرض فعليًا، ولو أنّ معالمه لم تكتمل بعد، فالثابت حتى الآن أنّه ليس "اليوم التالي" الذي كان الإسرائيليون وربما الأميركيون يخطّطون له، بانتظار أن تتّضح "أجندة" ترامب وخطوطها العريضة، ولكنّه ليس "اليوم التالي" الذي كان يراهن عليه خصومهم أيضًا، وقد أضحوا أضعف من السابق، ما يتطلب مراجعة حقيقية وجدّية من جانبهم، حتى لا يقدّموا بأدائهم السياسي، "هدايا مجانية" ينتظرها كثيرون!.