الرعاية ونقل البشارة هما القلب النابض للحياة المسيحية الكنسية، وهما النبع الذي يتدفق منه ماء البركة، فيروي عطش المؤمنين ويغذي جسد المسيح الواحد. لقد سمعنا شهادة رفيعة من أحد علماء المسلمين، أثنى فيها على هذا النهج المبارك في حضرة المطران جورج خضر، الذي نقل إلينا تلك الكلمات بكل تواضع، كأنه يعيد صداها كترنيمة حب لله وللإنسان.

فالراعي الذي امتلأ قلبه بمحبة المسيح لا بد أن يفيض حبًا على رعيته، لأن محبة يسوع هي المفتاح الذي يفتح أقفال القلوب المغلقة، وهي التي تجعل الراعي يرى في كل فرد صورة الله الحي، مهما كان ضعفه أو خطاياه. كما قال الرب لبطرس، وهو يوصيه بالرعاية: "إن كنت تحبني، إرعَ حملاني".

نستحضر هذا المعنى العميق ونحن نعيش بركات عيد الظهور الإلهي (الغطاس) المبارك، الذي تتجلّى فيه الرعاية الكنسية في أبهى صورها. فتقليد استفقاد المنازل في هذا الموسم ليس مجرد عادة عابرة، بل هو استجابة حية لنداء المحبة الإلهية، التي تحوّل كل عمل رعوي إلى لقاء مقدّس مع الله ومع شعبه.

في خدمة تكريس المياه يوم العيد، يقف الكاهن بخشوع أمام وعاء الماء، رافعًا يده بالدعاء، فيما يشترك معه الشعب بصلواتهم المتضرعة، قائلين: "احضر الآن بحلول روحك القدوس وقدّس هذا الماء. امنحه نعمة الفداء وبركة الأردن. اجعله ينبوعًا للحياة، وتنقية للنفس والجسد، وشفاءً للآلام، وتقديسًا للمنازل".

وبعد أن تُقدَّس المياه، يحملها الكاهن كمن يحمل نعمة الله بين يديه، فيسير إلى المنازل لينضح بها البشر والحجر، مرتلًا أناشيد العيد التي تفيض فرحًا. في هذه اللحظة، تلتقي السماء والأرض، ويُرفع الدعاء أن تظلّ هذه البيوت عامرةً بالنعمة، وأن يُبعد عنها الربّ كل شرّ ويمنح أهلها الصحة والسلام.

إن هذه الرحلة السنوية للكاهن بين بيوت رعيته ليست "زيارة"، بل هي حج روحي تتلاقى فيه القلوب. فمن بيت إلى بيت، يفتح الكاهن أذنيه وذراعيه ليستمع إلى هموم أبناء رعيته ويحتضن آلامهم. وفي المنازل التي تسكنها الأحزان، أو يثقلها المرض، أو تعصف بها الخلافات الزوجية والضيقات المادية، يطيل الراعي مقامه، ليضيء بنور الكلمة أركان الظلمة، ويزرع بذار الرجاء في أرض القلوب المتعبة.

الكاهن هو الأب الروحي لرعيته، يحمل إليهم محبة المسيح بغير حساب. منهم من يقبل هذا الحبّ وينمو فيه، ومنهم من يبتعد عنه، لكن الراعي يبقى مخلصًا لدعوته، يزرع الكلمة في كل تربة، منتظرًا أن يأتي الرب بثمرها في حينه.

في هذه الزيارات، يقدّم الكاهن خدماته الروحية والاجتماعية، ويشجع أبناء رعيته على الصلاة، والتعمّق في الإيمان، وممارسة المحبة التي لا تسقط أبدًا. هذه اللقاءات ليست مجرد واجب رعوي، بل هي واحة يتجدد فيها الحب والاحترام المتبادل، خاصة مع الأطفال الذين ينظرون إلى الكاهن كصديق ومرشد وأب.

عيد الغطاس وتكريس المنازل ليس طقسًا مباركًا وحسب، بل فرصة ثمينة للكاهن كي يكتشف مواهب أبناء رعيته، ويدوّن ملاحظاته عن احتياجاتهم الروحية والمادية، ويضع خطة عمل للسنة المقبلة بالتعاون مع معاونيه. هكذا تتحوّل الرعية إلى خليّة حبّ حية، تواجه تحديات البناء الروحي بثقة وتعاضد.

العلاقة بين الراعي ورعيّته ليست علاقة سلطة أو فرض، بل هي حوار حبّ أبوي وثقة بنوية. نجاح الرعاية، كعمل طبّي روحي، يعتمد على انفتاح الراعي واستعداد المؤمنين لتقبّل الحب الإلهي. هنا، لا مكان لفوقية إكليريكية، بل لجمع كل المواهب في جسد المسيح الواحد، لبنيان الكنيسة، نورًا وشهادةً في العالم.