زيادة مضاعفة، ثمار مضاعفة، هذا معنى اسم إفرام، وهكذا كان القدِّيس إفرام السريانيُّ (306-373م) الَّذي لُقِّب بقيثارة الروح. مدينته "نصيبين" (تركيا حاليًّا) هي ملتقى الحضارات لكونها كانت تقع على الحدود بين الامبراطوريَّتين الرومانيَّة والفارسيَّة (العراق وتركيا وسوريّة اليوم)، وتنافَست كلتاهما على احتلالها لفترة من الزمن، إلى أن حصل اتِّفاق سلام بينهما في القرن الميلاديِّ الثالث، فدخلت بالتالي "نصيبين" مرحلة السّلام والازدهار التجاريِّ، ونشطت فيها الثقافة بين بلاد ما بين النهرين والفكر الفارسيِّ واليونانيِّ والرومانيِّ، لتشكِّل فسيفسفاء غنيَّة متنوِّعة اللغات والحضارات أعطت القدِّيسَ دفعًا مميَّزًا، من غير أن ننسى طبعًا اللغة المحلِّيَّة السريانيَّة الَّتي برع فيها قدِّيسُنا. وكان يوجد في المدينة شعوب مختلفة من بينها جالية يهوديَّة. عرفت مدينة "نصيبين" الإيمان المسيحيّ باكرًا جدًّا ولربَّما مع القدِّيس توما الرّسول، وكان يوجد فيها كنيسة كبيرة على اسم القدِّيسة الشهيدة فبرونيا وهي مِن هناك، قبل أن تتحوَّل الكنيسة إلى جامع.
تتلمذ إفرام على يد أسقف المدينة يعقوب الَّذي وجده إنسانًا متَّقدًا بالرّوح، فسامه شمَّاسًا وأقامه معلِّمًا للإيمان المسيحيِّ في مدرسة – بمثابة جامعة - نصيبين المشهورة الَّتي دعيت بأمِّ العلوم. ولكنَّه اضطرَّ بعدها للانتقال إلى مدينة "الرّها" نتيجة احتلال الفرس لـ"نصيبين". وبرزت "الرّها" كمركز مسيحيٍّ سريانيٍّ مهمٍّ جدًّا، وشارك أسقفها في المجمع المسكونيِّ الأوَّل (325م). وكانت أيضًا مدينة التقت فيها الحضارات الَّتي كانت سائدة آنذاك لكونها تقع جنوب شرق الأناضول في تركيا وعلى تقاطع الطريق السريع بين الشرق والغرب. كانت لغة المدينة الأمِّ الآراميَّة الَّتي أتت منها اللغة السريانيَّة، كما أنَّ الثقافة الهلينيَّة أو الهلنستيَّة لم تكن قبلًا غائبة عنها.
فاض هناك القدِّيس إفرام في كتاباته المسيحيَّة وميامره وشعره وألحانه وأناشيده، وتميَّز أسلوبه بالغِنى والبساطة في آن في خدمة الكائن الواحد الَّذي هو الربُّ يسوع المسيح. ويجمع الباحثون على أنَّه كتب مِن فيض الرّوح القدس فيه.
كتب إفرام عن الربِّ يسوع الملك وعروسه الكنيسة الَّتي تضمُّ الإكليريكيِّين وغير الإكليريكيِّين، وجميعهم أبناء النور، وشدّد على دور الأسقف تجاه رعيَّته، وأن يكون صاحب مشورة لا أحاديَّ الفكر. وكتب بإسهاب عن الأسرار الكنسيَّة وأهمِّيَّة تناول القدسات، وشركتنا مع الربِّ بتناولنا جسده ودمه الكريمين لأنَّ الربَّ كسر جسده وأفاض دمه من أجل خلاصنا، وأيضًا عن ولادتنا الثانية بالمعموديَّة في الكنيسة.
كما عمل إفرام على تفعيل الجميع ليكونوا في الكنيسة، فأسَّس جوقة مسيحيَّة نسائيَّة من العذارى، داعيًا إيَّاهنَّ إلى الامتلاء من كأس الحياة الأبديَّة، كما ذكر دور خدمة العذارى في الكنيسة. بالإضافة إلى اهتماماته الرّوحيَّة في خلاص النفوس لم تغب عنه الاهتمامات الجسديَّة للناس في أوقات الضيق، فقد لعب دورًا مهمًّا جدًّا في تأمين القوت واللباس للمعوزين.
كما ترجم تكريمه لوالدة الإله وأهمِّيَّتها ومكانتها في الكنيسة ودورها بكتابات أخَّاذة. بالمقابل حاول بعض المصطادين بالماء العكر أن يدَّعوا بانحراف القدِّيس إفرام حول والدة الإله لِكونه لم يستعمل عبارة «والدة الإله» بل استعمل عبارة «أمّ المسيح»، لكنَّ اتِّهامهم جاء باطلًا لأنَّه قال بوضوح تامٍّ لا يحتمل أيَّ التباس بأنَّ العذراء أنجبت ابنًا وهو ابن الله ودعى للتبشير به، وأنَّ حشا والدة الإله حمل يسوع مِن دون زرع، وأنَّها دائمة البتوليَّة. وهناك شيء لافت هنا، فإفرام يركِّز على موضوع السّماع، فبمجرَّد أنَّ مريم الطاهرة سمعت صوت الملاك حبلت. ويقارن بين حوَّاء القديمة الَّتي عصت وصيَّة الربِّ وأعطتنا الموت وبين مريم الَّتي أصغت وأطاعت وأعطتنا الحياة بابنها الإلهيِّ يسوع وأضحت سكنى النور.
بالإضافة إلى كلِّ ما ذُكر يعتبر القدِّيس إفرام السريانيُّ قدِّيس التَّوْبة بامتياز، وأنَّ الإنسان عنده كامل القدرة على أن يتحرَّر من الخطيئة بالتَّوْبة وبالاتِّحاد بالربِّ لأنَّنا مخلوقون على صورة الله. ويشرح أنَّ التَّوْبة هي الرّجوع إلى الله بجهاد وقرار، وببغض الخطيئة وحبِّ الذات واكتساب فضيلة التواضع مهما اكتسبنا من معرفة، فهو كان كذلك، عالم ومنسحق. كما دعا إلى التألُّم مع الخاطئ لأنَّ الخاطئ يتألَّم من خطيئته حتَّى لو لم يدرك ذلك، لأنَّ نهاية الخطيئة الجَحيم.
كما يشدِّد على أنَّ جِهاد التَّوْبة يؤهِّلنا إلى رؤية المسيح القائم في المجد ويقيمنا في حضرته، متابعًا أنَّ يسوع هو الطبيب الشافي.
ونختم بعبارته الرائعة: «الكنيسة جماعة التّائبين».
إلى الربِّ نطلب.