لم تكن زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى بيروت هذا الأسبوع، مجرّد زيارة عاديّة تضاف إلى سجلّ زيارات الوزراء والموفدين الخارجيّين الدوريّة إلى لبنان، فالزيارة التي كانت مجدولة عشيّة الانتخابات الرئاسية، ثمّ أرجئت في اللحظة الأخيرة، هي الأولى من نوعها لأرفع دبلوماسي سعوديّ منذ أكثر من 15 عامًا، كما أنّها تأتي لتكسر "قطيعة" سعودية شبه مُعلَنة للبنان، استتبعت قطيعة "خليجية" مماثلة، ولو لم تكن شاملة.

لكنّ الزيارة السعودية المعبّرة والاستثنائية، لم تكن "يتيمة" في الأيام القليلة الماضية، فقد سبقتها زيارات "نوعيّة" لا يمكن التقليل من شأنها، لعلّ أهمّها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المؤجَّلة هي الأخرى منذ زيارته الأخيرة بعيد انفجار مرفأ بيروت، وكذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وأعقبتها زيارة لافتة أيضًا لوزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا، في ظلّ "زخم" يتوقع أن يتصاعد في الأيام القليلة المقبلة.

وكان الحراك الإقليمي والدوليّ على لبنان وصل إلى أوجه عشيّة الجلسة الانتخابية الرئاسية "الحاسمة" في التاسع من كانون الثاني، حين تحوّل لبنان في مفارقة لافتة للانتباه، إلى "محجّة" للمسؤولين والموفدين العرب والأجانب، حين حضر موفدون من فرنسا والسعودية، ولكن أيضًا من الولايات المتحدة ومصر وغيرها من الدول، وإن وُضِعت تلك الزيارات حينها في خانة استكمال الدور الذي لعبته "اللجنة الخماسية" على الخطّ الرئاسي.

أما الحراك المستجدّ، فيأتي ليتوّج الزخم "الرئاسي"، باعتبار أنّ "المرحلة الجديدة" التي كان الحراك السابق يؤسّس لها، قد انطلقت مبدئيًا، مع انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون، وتسمية رئيس الحكومة المكلف نواف سلام، وإن كان "القطار" لم يكتمل بعد بانتظار تشكيل مجلس الوزراء، وإطلاق ورشة الإصلاح، فأيّ دلالات تحملها هذه الزيارات المكثّفة بصورة عامة، وتلك السعودية بصورة خاصة، وإلى أيّ مدى يمكن الرهان عليها؟!

في المبدأ، يمكن القول إن الزخم الإقليمي والدوليّ حول لبنان في هذه المرحلة، يستند إلى اكتمال "منظومة الحكم الجديدة"، إن صحّ التعبير، ولا سيما أنّ المجتمع الدولي كان "يرهن" دعمه الموعود للبنان بانتظام المؤسسات الدستورية فيه، وهو مسار قد بدأ عمليًا مع انتخاب الرئيس، علمًا أنّ هذا الزخم يرتبط أيضًا باستحقاق آخر في غاية الأهمية، ربطًا بمهلة الستين يومًا لانتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، وما يمكن أن يستتبعه ذلك.

في هذا السياق، يشير العارفون إلى "ضبابية" محيطة بهذا الاستحقاق، تدفع إلى "القلق" من احتمالات عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وتحديدًا إلى مرحلة الحرب، باعتبار أنّ الضغوطات الإقليمية والدولية التي نجحت في إقناع الجهات اللبنانية بتجاوز الخروقات الإسرائيلية المتكرّرة، قد لا تنجح في إقناعها بالاستمرار بتجاوزها إذا لم تنسحب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية بحلول يوم الأحد، وهو ما قد يضع الجميع في موقف صعب ومحرج.

من هنا، فإنّ الوضع في الجنوب قبل وبعد الأحد يحضر بلا شكّ في الزخم الإقليمي والدولي حول لبنان، في سياق محاولات دؤوبة لمنع "الانزلاق" مجدّدًا نحو حرب لا يريدها أحد، وليست في مصلحة أحد، إلا أنّ العارفين يشدّدون على أنّ هذا الأمر لا يأتي في "صدارة" الحراك الإقليمي والدوليّ حاليًا، خصوصًا أنّ الاتصالات على خطّه تجري بشكل أساسيّ مع الولايات المتحدة، في إطار قنوات التواصل المفتوحة أساسًا في هذا المضمار.

لهذه الأسباب، فإنّ الأساس في الحراك الخارجيّ باتجاه لبنان، يبقى على المستوى السياسيّ الداخليّ، ربطًا بالتغيير النوعي الذي شهده لبنان في الأسابيع الأخيرة، بدءًا من المعادلات التي استجدّت بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، وما أفضت إليه من تغييرات ترجمت سريعًا على خطّ الاستحقاقات الأساسية، عبر "الإفراج" عن انتخابات الرئاسة عبر "خيار ثالث" لا ينتمي للمعسكرين المضادين، وبعده تسمية رئيس حكومة، يعكس أيضًا روحيّة "التغيير".

في هذا السياق أيضًا، تُفهَم العودة السعودية "المعبّرة" إلى لبنان، وهي عودة تنطوي بلا شكّ على أهمية استثنائية، بعد علاقة "إشكالية" على مرّ السنوات الماضية، جعلت الرياض "تنكفئ" بصورة شبه كاملة عن الساحة اللبنانية، حتى إنّ عضويتها في "اللجنة الخماسية" بدت في العديد من المراحل، "رمزية وفخرية" لا أكثر، حيث تعمّدت البقاء "على الهامش"، تاركة للفرنسيّين والقطريّين بشكل خاص، أمر "القيادة"، إن جاز التعبير، حتى الأيام الأخيرة.

ولعلّ "جذور" الإشكال بين السعودية ولبنان معروفة لكثيرين، ربطًا بالمواقف "الحادة" التي اتخذها "حزب الله" في العديد من المراحل ضدّ السعودية، والتي اعتُبِرت "تدخّلاً في شؤونها"، حتى إنّ شعارًا مسيئًا لحكّام السعودية كان يُطلَق علنًا في مهرجانات الحزب، من دون حسيب أو رقيب، كما أنّ الرياض اعتبرت أنّ الحكومات المتعاقبة تتحمّل مسؤولية، لكونها لم تتّخذ موقفًا واضحًا، بل كانت تتبنّى في الكثير من الأحيان أدبيّات الحزب.

وإذا كان هناك من يعيد "جوهر" المشكلة إلى فترة ما بات يوصَف بـ"احتجاز" رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، وقد عكس في حينه "نفورًا" من أداء الرجل الذي كان محسوبًا على المملكة، لكنه دخل في تسويات مع "حزب الله" وغيره، تحت عناوين إشكالية أيضًا من نوع "فضّ الاشتباك"، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّ السعودية تعتقد أنّ "صفحة جديدة" تُفتَح اليوم، وإن كان نجاحها من عدمه، ينتظر خطوات "ملموسة" من الجانب اللبناني.

من هنا، يشدّد العارفون على أنّ "الصفحة الجديدة" التي يتحدّث عنها زوار لبنان، والسعوديون من ضمنهم، تبعث على التفاؤل بتجاوز الصفحة السابقة، إلا أنّها لا تمهّد بالضرورة لذلك، لأنّ الكرة تبقى في ملعب اللبنانيين، الذين يقع على عاتقهم اليوم أن يكرّسوا "التغيير" الذي حصل، بدءًا من تشكيل الحكومة، التي ستكون تركيبتها "حاسمة" في تحديد طريقة تعامل المجتمع الدولي مع لبنان، علمًا أنّ ما يسرّب عن "محاصصة" على خطها لا يبشّر بالخير.

يقول العارفون إنّ المطلوب اليوم من كلّ القوى السياسية أن تعمل على تشكيل حكومة متناغمة ومتجانسة، وإصلاحية في المقام الأول، بعيدًا عن الصراع على الحقائب وتناتش الحصص الحاصل حاليًا، فالحكومة العتيدة لديها مهمّة محدّدة وقد تكون معقّدة، وهي إطلاق ورشة الإصلاحات، وما دون ذلك فكلّ الانفتاح الدولي على لبنان سيبقى حبرًا على ورق، والمساعدات الموعودة ستبقى ممنوعة على اللبنانيين.

في النتيجة، لا شكّ أن الزخم الإقليمي والدولي نحو لبنان مهمّ، ولا شكّ أنّ الكثير يُبنى عليه من أجل مساعدة لبنان فعلاً لتجاوز الأزمات الكثيرة التي يتخبّط بها، خصوصًا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، لكنّ الأهم من كلّ ذلك، يبقى أن تكون "المبادرة" مرّة أخرى من اللبنانيين أنفسهم، الذين يتوجّب عليهم إقناع العالم بأنّ تغييرًا حصل فعلاً، وبأنّ مفهوم "الدولة" هو الذي يتكرّس، ما يمنع أيضًا أيّ منطق "تبعية" قد يكون البعض متوجّسًا منه!.