هي مِنَ الجَوهَرِ الإلَهيِّ، وَفي وجودِهَا حُرِيَّةُ الإِنسانِ لا بَل حُرٍيَّةُ الخَلِيقَةِ فِي إنسِجامِها مَعَ ذاتِها. مُقابِلُها، تَصارُعُ الجَوهَرِ مَعَ الوجودِ والوجودُ مَعَ الجَوهَرِ، في الإنسانِ وَمَعَهُ، في الخَلِيقَةِ وَمَعَها.

أهيَ بَصيرَةُ الوجودِ، إِذْ يُعَرَّفُ الوجودُ بِالحُرِيَّةِ؟ والقَلبُ العَاقِلُ الجَوهَرَ... حِينَ الحَتمِيّاتُ مَانِعَةٌ؟ هي الوَعيُ الكِيانيُّ. قُلّ: فَرادَةُ كِيانٍ عَلائِقيٍّ مِنَ اللهِ أتزَت وإِلى اللهِ تَمضي، حَامِلَةً إنتِماءَ الإنسانِ لِتَغرِسَهُ في جِهادِ هوِيَّةٍ مُتَصالِحَةٍ مَعَ نَفسِها وَمَعَ اللهِ، لا أسيرَةَ التَحاقُدِ وَإنفِعالاتِ الإنغِلاقِ فِي حَصرِيّاتِ مَفاهيمَ إِقصائِيَّةٍ لِلإيمانِ.

هي مِن نَشأتِها الوجودِيَّةِ اللُبنانِيَّةِ على أَعلى قِمَمِ الصيغَةِ، أُسَسِيَّةٌ (بُعدُهَا فِي الخَلقِ) "مِن أَجْلِ" (خَلقُها في البُعدِ اللانِهائيِّ).

يا لِتَجَلِيّها، "أرزَةُ" فيكتورَ هوغو! أرزَة... لبنانَ.

قَصيدَةً نَظَمَها بَينَ 20 و24 تِشرينَ الأوَّلِ 1858 وَهو في السادِسَةِ والخَمسينَ مِنْ عُمرِهِ، لِيَضُمَّها إلى دِيوانِهِ الهائِل: La Légende des siècles "ميثِسْتا العُصُورُ". وَصَفَها تيوفيلُ غوتيير بِ"رؤيَةِ الإِنسانِ مِن خِلاَلِ الظُلُماتِ. مَوضوعُها الإنسانُ، بِالأحرى الإِنسانِيَّةُ."

فيها تِلكَ القَصيدَةُ، تُقيمُ أَرزَةُ لبنانَ حِواراً صوفِيّاً بَينَ الخَلِيفَةِ عُمَرَ ‒الثانيُ بَعدَ النَبيِّ مُحَمَّدَ‒ والقِدّيسِ يوحَنّا الإِنجيليِّ مِن جِهَةٍ، وَبَينَ جُدَّةَ، الرُكنِ الأُسطُوريِّ لِلبَشَرِيَّةِ، وَبِلادِ الإِغرِيقِ، المَصدَرِ المُتَخَيَّلِ لِلحَضارَةِ الغَربِيَّةِ. وإِذ أقامَ هوغو عُمَرَ فِي جُدَّةَ بَدَلاً مِن مَدِينَتِهِ الأصلِيَّةِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ أَو عاصِمَتِهِ المَدِينَةِ، وَهُما أولى المَدِينَتَينِ القُدُسِيَّتَينِ في الإِسلامِ، فَلِأنَّهَا تُذَكِّرُ بِمَدِينَةِ حَوَّاءَ، أُمِّ جَمِيعِ البَشَرِ.

وَلِمَ أَرزَةُ لبنانَ؟ هوغو يُجِيبُ نَثراً: "هي بِدايَةُ الغَابَةِ، هي الكُلُّ. تَنتَمي إلى الحَياةِ الشَّخصِيَّةِ بِالجُذورِ، وَلِلحَياةِ المُشتَرَكَةِ بِالعُصارَةِ. بِمُفرَدِها، تَثبُتُ، لَكِنَّها تُمَهِّدُ لِلغابَةِ (...). الكُلِيَّةُ الإِنسانِيَّةُ تَتَلَخَّصُ في حَرَكِيَّتِها الواحِدَةِ والشامِلَةِ بِصُعودِها إلى النّورِ.

هي الجِسرُ السَماوِيُّ بَينَ الجُذورِ الشَرقِيَّةِ لِلحَضارَةِ وَسِفرِ الرؤيا، سِفرِ عُبورِ الغَربِ لِلعالَمِ الآتي.

أمانِةُ الإسراءِ والمِعراجِ

أرزَةُ لبنانَ لِفيكتورَ هوغو، يَستَحلِفُها الخَليفَةُ عُمَرُ صارِخاَ "صَوْبَ الشَمالِ المأهولِ بالنُسورِ النَهِمَةِ"، أن "إقَتِلعي مِنَ الصَخرِ المُتَجَذِّرَةِ فيهِ" وَحَلِّقي "بإسمِ اللهِ الحَيِّ" لِتُظَلِّلي يوحَنّا الإنجيليِّ مُؤَلِّفَ "الرؤيا"، "الراِقدَ وَرأسُهُ عارٍ تَحتَ الشَمسِ"، في مَنفاهُ على شاطئِ جَزيرَةِ باتموسَ، مِثلَ حَوَّاءَ المُمَدَّدَةِ على شاطِىءِ جُدَّةَ. وَإستِدعاءُ "اللهِ الحَيِّ" لَيسَ إلَّا تَوكيدًا لِليَقظَةِ التُجَسِّدُها الأرزَةُ... لِحَجٍّ هو أكثَرُ مِن إجتِذابٍ لِشُمولِيَّةٍ. قُلّ: لِأمانَةِ الإسراءِ والمِعراجِ، ذاكَ الحَجُّ الَليليُّ صَوبَ السَماءِ لِلنَبيِّ مِن مَكَّةَ الى أورشَليمَ، رِباطُ الإسلامِ بالتَوحيدِ الإلَهيِّ. بالتَوحيدِ الإنسانِيِّ.

وَبَعدُ أكثَرُ. هي أرزَةُ لبنانَ موَحِّدَةُ البَشَرِيَّةِ مِنَ التَكوينِ (حَوَّاءُ) الى "الرؤيا" (الأزمِنَةُ الإسكاتولوجِيَّةُ) فالصَوغُ القُرآنيُّ، مِن أرضِ البَشَرِ الى إسراءِ السَماءِ وَمِعراجِها. هوغو إعتَرَفَ: "إنَّها تاريخٌ مَصغِيٌّ عِندَ أبوابِ الميثِسْتا."

وأكثَرُ بَعدُ. هي أرزَةُ لبنانَ، "المُنغَمِسَةُ في السُحُبِ الهائِلَةِ لِلهاوِيَةِ / العابِرَةُ الأمواجَ، الهاوِيةَ العَدُوَّةَ المُظلِمَةَ..."، في إسرائِها وَمِعراجِها صَوبَ أمانَةِ السَماءِ، رِسالَةُ إنبِعاثٍ مِن ظُلُماتِ "الرؤيا"، بِكَلِماتِ عُمَرَ الخَليفَةِ. وَبِإسمِها تِلكَ الرِسالةِ، يوحَنَّا القِدِّيسُ، "ذَخيرَةُ اللهِ على الأرضِ... لِغَلَبَةِ المَسيحِ الدَجّالِ" يَنهَضُ، "وَصَوبَ الجَنوبِ يَتَّجِهُ وَيَصرُخُ في الرياحِ / فَوقَ زالشاطئِ الجافِّ لِجَزيَرتِهِ"، الى المُتَصارِعينَ في الحَتمِيّاتِ العَقيمَةِ: "أيُّها القادِمونَ الجُدُدَ، دَعوا الخَليقةَ بِسَلامٍ".

لبنانُ أرزَةُ فيكتور هوغو مانِحَ كَينونَةِ الحَياةِ. جَوهَراً وَوجوداً. مِن بَدءِ الإيمانِ الى حِوارِ الأديانِ... وَتآلُفِهِما.