"لسنا من أصحاب "الإحباط" مع أن "عالمنا" يواجه أوقاتًا دقيقة وحسّاسة في زمن صعب ومُعقَّد، ليقيننا بِعدم استمراريَّة الإخفاق إلى الأبد، فالليل لا يدوم، بل هناك فجر يُبشّر "بعودة" و"شروق" أشعّة الشمس التي تحمل النور والهداية والأمل والرجاء". هذه العبارة الواردة في توطئة الأب الدكتور نجيب بعقليني لكتابه الجديد "عالمُنا المترنِّح بين خريف العولمة والتحوّلات الجيوسياسيَّة"، تختصر الدافع وراء تأليف هذا الكتاب الذي يتضمن تحليلًا علميًّا توثيقيًّا معزّزًا بالمراجع والمصادر للواقع الذي يسيطر على العالم، من حروب ومجاعات وأزمات على امتداد الكرة الأرضيَّة وكأن هذا الكوكب بات لا يتنشّق سوى رائحة الدم.

في تقديمه للكتاب يقول الدكتور فادي فاضل إن "النصّ يُشَيرُ بِالبَنَانِ إلى الشرّ الذي يكون المؤلِّف فيه الإنسان على صُعد الحروب والظُلم وتجاهُل أخيه الإنسان... في المُقابل يوضح النصّ الطريق الواجب اتّباعه لإعادة نسج الرابِط الذي يوحّد بين البشَر، الرابِط الإنساني، الرابط الاجتماعي، والعَقد بين الناس على غرار شُرعة حُقوق الإنسان".

يتضمَّن الكتاب عشرة فُصول: عولمة... إلى أين؟، العولَمة وحُقوق الإنسان، حُقوق الإنسان في اضمحلال، المُواطنة تُصحّح الأنظِمة!!، حضارات الشُعوب من أجل الأُخوّة الإنسانيّة، نِظام عالمي جديد؟!، الأُخوّة الإنسانيّة الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان، عَدل يترنّح وعَدالة اجتماعيّة مُجتزأة، إنسان لإنسانيّة خلّاقة، نِضالُنا مُستمرّ... نحو العَدالة والرّحمة.

تسلّط هذه الفُصول الضوء على تداعيّات التطورات الجيوسياسيّة من حروب سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط بين إسرائيل وحركة حماس... وتأثير جائحة كورونا على السياسات العالميَّة لا سيما الاقتصادية والمالية والتحديات التي تفرضها في هيكليّة النمو في العالم، ما يمثل إرباكاً ويُسهم في تصاعد المخاطر، إلى جانب الفساد المستشري بسبب سوء إدارة المسؤولين والزُّعماء وتغليب غرائزهم الشخصيّة على مصلحة المجتمع والمُواطِن...

على امتداد صفحات الكتاب يُطلق الأب نجيب بعقليني الصرخة تلو الصرخة كي يُسانِد الإنسانُ الإنسانَ الآخر، في ظل هيمنة العولَمة المتوحّشة والديمقراطيّة الهشّة، وترنّح حُقوق الإنسان وتحويلها إلى سلعة عابرة تُستخدم لابتزاز البُلدان النامية التي تُعاني صُعوبات اقتصاديّة واجتماعيّة وحتى سياسيّة، وكي يحتكِم الإنسان إلى ضميره ووعيه ويُحافِظ على مُواطنيّته القائمة على المُساواة والعَدالة الاجتماعيّة وتطبيق الأنظِمة والقوانين وانتشار العدل والرَحمة معًا في إعادة بناء إنسانيّة الإنسان وارتقائها.

في مقابل الوجه السلبي للعولمة يبيِّن المؤلف أن هنالك وجهًا إيجابيًّا لها يكمن في وضع حُقوق الإنسان ضمن اهتمامات ال​سياسة​ في العَلاقات الدوليّة، مؤكدًا أنه عندما نُكافح لتطبيق حُقوق الإنسان، علينا مُطالبة ذواتنا أولًا، ومن ثم الآخر، بالتقيّد بالأنظِمة لمُواجهة الانحلال الأخلاقي والمضي في مُواطنيّة تجمع أفراد المُجتمع حول إنسانيّة الإنسان، لا سيما أن المُواطنة ممرّ إلزامي إلى عالم أفضل وإنسان راقٍ، كونها تحمي حُقوق الإنسان وتحسّنها وتُخرجها من دوامة الزوال، نظرًا إلى مقوماتها المتمحورة حول المُساواة وتكافؤ الفُرص، المُشاركة في الحياة العامة والولاء للوطن، وعدم تشويه الطبيعة وهي خليقة الله.

لا يكتفي الأب بعقليني بتحليل واقع "عالمنا" المزري بل يطرح حلولًا للخروج من دوّامة القهر والذلّ والشرّ قائمة على: عَقد ثقافي يُرسّخ ويُعزّز وينشُر التعدديّة الثقافيّة والتنوّع الغني بدلًا من التقليد والتطبيع والامتثال الثقافي، ونِظام عالمي جديد يُعالج الأخطاء الداهمة على البشَريّة ومخاطر التقدّم التكنولوجي وثورة الذكاء الاصطناعي وعالم الحوسبة، ويطبِّق مُقرّرات الأُمم المتّحدة التي تتناول السياسات العامّة على الصُعد كافة، خصوصًا المُحافظة على البيئة، تغيير في الأنظِمة بطريقة علميّة وحُقوقيّة وإنسانيّة عبر "ثورة بيضاء" تلتزم بمبادئ العَدالة والمُساواة وشُرعة حُقوق الإنسان وحقّ الشُّعوب في تقرير مصيرها، فضلًا عن تحديث الدولة والمؤسّسات وتحرير الإنسان من التسلُّط والدونيّة والاستغلال والغِشّ والعُنصريّة والفَساد والعوز، وتوجيهه نحو نور إنساني مُطعّم بتضامُن اجتماعي و"أخوَّة إنسانيَّة".

يركز المؤلف في بحثه على أهميّة بناء ديمقراطيّة فاعلة ومُتجدّدة وضامنة وتشارُكيّة مرتكزة على القانون وعلى الكفاءة والفعاليّة، وبناء هويّة ثقافيّة تتضمّن قيمًا ومعايير تُعبّر عن الخُصوصيّة التاريخيّة لمجموعة ما أو بلد ما، إضافة إلى نظرة هذه المجموعة لِما يدور حولها، وبناء تحالُف عالمي واسع النطاق من أجل العَدالة الاجتماعيّة والمساواة والرعاية الاجتماعيّة التي تصبو إلى الرفاهيّة الاجتماعيّة.

يتوقف في أكثر من محطّة في الكتاب على ضرورة الحِفاظ على حُقوق البشَر انطلاقًا من تحديد الكرامة واحترامها، لذا على المؤسّسات العامّة والخاصّة والمجتمع المدني أن تكون في خدمة كرامة الإنسان ومصيره وتُحافظ على حُقوقه الأساسيّة، وأن تُقاوم كلّ أنواع الاستعباد والظُلم مهما يكن النِظام السياسي، مؤكدًا أن هنا تكمن رسالة "جمعيّة عدل ورحمة" التي تجاوزت الصُعوبات والعوائق، وواظبت على مُساعدة نُزلاء السُجون وتأهيل الأشخاص المُرتهنين للمخدّرات ضمن أُطر البرامج المُتخصّصة، مع تأمين وسائل علاجيّة ومُرافقة نفسيّة واجتماعيّة، خلال فترة العلاج وبعدها.

يخلص الأب بعقليني إلى أن بالمُطلق، يبحث الإنسان عن ضمانات، وعليه الإيمان بالخالِق وبذاتِه وبالإنسان ليتفوّق باستمرار ويجعل حياته مكانًا "للعيش معًا" تحت سقف القانون والمُعاهدات والاتفاقيّات الدوليّة، مُشبعة بالمحبّة والتسامُح والرَّحمة والعَدل.

كاتبة وإعلاميّة