بَينَ أواخِرِ ألفِيَّةٍ وَصَباحِ أُخرى، إٍستَطابوا ماجَرَياتِ السَطحِيَّةِ وَمُغرَياتِ التلاغيِ الذاتيِّ حَدَّ التَلَذُّذِ بالدَمِّ المَسفوكِ سُدىً، كرمى لِمَناصِبَ أو ألقابٍ. كَمَن يَستَسيغونَ الغِبطَةَ في ذاتِيَّاتِ الزَوالِ، مُتَسابِقينَ على التَباهِيَ أنَّ ما أُعطوهُ مِن فَوق هو "مَلجأٌ". وَما فَقَهوا أنَّ المَلجأَ مَكَبُّ تكديسٍ لِنُفاياتٍ دَهرِيَّةٍ‒ هُمُ فيه بَيادِقَ مُقايَضاتٍ وَمَنافِعَ صَفَقاتٍ يَسودُ فيها كُلُّ مَن أُتخِمَ غَرائِزَ إستِفرادٍ بِهِمِ لِلإحتيازِ... وَقَد صَدَّقوا أنَّهُمُ مِنَ المِركنتيلِيَّةِ ‒مُساواماتِ البَيعِ والشِراءِ وَغَلواتِ الدَهاءِ‒، أتوا وإلَيها هُمُ تائِبونَ كُلَّما تَغَرَّبوا عَن ذاتِهِمِ التي هي نَقيضُ نَقيضُ ما انتَهوا إليهِ، مُتَشَدِّقينَ بِأسماءَ قِدِّيسيهِمِ وَهُمُ أبعَدُ ما عَرِفوهُم وَعاشوا مِن ماهِيَّتِهِمِ.
يا لِهَولِ أن يَغدو من بدءِ عَقلِهِ إرتِقاءُ التَساؤلاتِ، وَبَدءُ بَدءُ إيمانِهِ إكتِناهُ سِرِّ الوجودِ في الجَوهَرِ، وَبِهِ، وَلَهُ، الى الأُفولِ في الفَراغِ المُجَوَّفِ لِلدَنَسِ... كالمُهَرِّجِ المُقتَنِصِ أشلاءَ تاريخٍ هُروباً مِن وَراءَ لِوَراءَ!
تِلكَ التراجيديا المَسلوبِ الكَلامُ عَنها في هَذا الشَرقِ المُترَعِ بالفَواجِعَ.
إنَّها تراجيديا كَنيسَةٍ أبناؤها طعِنوا بِأكثَرَ مِن حَربَةٍ، لِأنَّهُمُ تَناموا عُصاةً، على تُخومِ نَهرٍ عاصٍ، هادِرٍ لِتَسامي الفَوقَ لا الى أخدارِ التَحتِ. مَنبَعُهُ قِمَمُ لبنانَ، وَهَديرُهُ نَذيرُ إندِثارِ مَطاميرَ بِدَعِ الشَرقِ وَهَرطَقاتِ الغَربِ، وَلامَشروعِيَّةِ شُرودِهِما لِدَحضِ شَرعِيَّاتِ الوجودِ مِن حَقٍ والحَقِّ مِنَ الجَوهَرِ.
إنَّها تراجيديا كَنيسَةٍ أُبوَّتُها مِن هامَةٍ قارَعَت عَراءَ الطَبيعَةٍ، لِتُنبِتَ جُذورَها في زُهدِ السَماواتِ لِأنَّ في ذاكَ التأسيسِ لا فَلسَفَةَ حَياةٍ بَل لاهوتَ الحَياةِ ألبِهِ يُدنى مِنَ الأُلوهَةِ، فيها وإلَيها. فَكانَ مارونُ، وَيوحَنَّا-مارونُ، وَإسطِفانُ الإهدِنِيُّ-الفِردَوسِيُّ الهائِلُ، وَإلياسُ مُحَقِّقُ لبنانَ-القُدسُ لِلأقداسِ.
إنَّها تراجيديا كَنيسَةٍ شُرعَتُها صُعودٌ وَشَرعِيَّتُها لا مِن إرثِ عِرقٍ تَشَعَّبَ لُغاتٍ بِلَغوِ فَواصِلَ وَتَراكُمِ مُشاحَناتٍ، وَلا مِن إكرامِ مُلوكٍ تَمَلَّكوا فَإستَملَكوا... بَل مِن تَجَلِّي شَعبٍ على أرضٍ هي لَهُ القَلبُ كَما لِلَهِ إذ إسمُها يَعني في لُغَةِ ذاكَ الشَعبِ، لُغَة إبنِ اللهِ المُتَجَسِّدِ: "قَلب اللهِ". تَجَلٍّ، أباءُ هَذا الشَعبِ وَأبناؤهُ خَطّوهُ بِدِمائِهِمِ، أزمانَ الإضطِهاداتِ والإنقِساماتِ وأدهارِ الإنكاراتِ والرَفضِيَّاتِ وَسَطوَةِ الَلعَناتِ، على مَدى ثالوثِيَّةٍ هي جُغرافِيَّتُهُمُ الإيمانِيَّةُ: أنطاكِيَةُ (أسَسِيَّةُ شَهادَتِهِمِ-الحَقِّ)، أورشَليمُ (أسَسِيَّةُ شَهادَةِ مُعَلِّمِهِمِ لِلحَقِّ)، روما (أسَسِيَّةُ شَهادَةِ رَسولِيَّتِهِ-الحَقِّ).
سُكنى وَطَنٍ تَقديسِيٍّ
في هَذِهِ الثالوثِيَّةِ قَصَدوا تَتميمَ العاصِيَةَ-فَرادَتَهُمُ، بإتِّحادٍ وَجهاً لِوَجهٍ مَعَ المُطلَقِ الذي هو اللهُ. قُلّ: مُطلَقُ الحُرِيَّةِ، هَذا الفَيضُ وَحدَهُ المُلاشي المَسافاتِ في الحُلولِيَّةِ التَبادُلِيَّةِ. مِنها، كانَ غَمرُهُمُ في أُبوَّةِ اللهِ، وَلَهُ. وَوجوبُهُمُ كأبناءَ اللهِ الغامِرِ الخَليقَةَ بالخَلاصِ، لا رَجاءً فَحَسبَ، بَل واقِعاً في وجودِ الجَوهَرِ وَجَوهَرِ الوجودِ.
تِلكَ هي المارونِيَّةُ، كَنيسَةُ السُكنى على أرضٍ أعلَتها وَطَناً تَقديسِيّاً، بِوَجهِ طَرائِقَ العَصَبِيَّاتِ وَفُتوحاتِ العُنصُرِيَّاتِ وَتَعاقُب العَدَمِيَّاتِ وإنحِرافاتِ الشُمولِيَّاتِ، فِعلَ تَفَلسُفاتٍ وَقَوانينَ لاإيمانَ. فِعلَ عَقلٍ مَنحولٍ وَقَلبٍ مَنحولٍ.
تِلكَ هي المارونِيَّةُ، كَنيسَةُ السُكنى في وَطَنٍ أعلَتهُ رُسوخاً تَقديسِيّاً، بِوَجهِ التيوقراطِيَّاتِ الناكِرَةِ أساساً لِأيِّ فِعلِ تَقديسٍ، إذ إستَباحَت لِذاتِيَّاتِها الأُلوهَةَ وَلِذاتيَّاتِها أقامَت الأرضَ المُتَسَلِّطَةِ عَلَيها سُجونَ الإخضاعِ والخُضوعِ بِواجِبات التَبجيلِ وَتَقاريظَ الإِستِعبادِ.
تِلكَ هي المارونِيَّةُ-الكِيانِيَّةُ، سُكنى كَنيسَةٍ لِوَطَنٍ تَقديسِيٍّ: لبنانُ الحُصنُ لِلمَشارِقَ كَما لِلمَغارِبَ. لبنانُ البُرجُ الناظِرُ مِن فَوقَ الى ذاتِهِ تَدحَرُ وَطَآتِ الإحتِواءاتَ، والى فَوقَ حَيثُ الشَهادَةُ-الدَينونَةُ إستِشهادٌ على مَذبَحِ الفِداءِ لِقيامَةِ الخَلقِ الجَديدِ.