الأزمان كلُّها في السنة الليتورجيَّة، على تنوُّعها واختلاف أسمائها، وما تتضمَّن من أعياد ومناسبات وخدم وصلوات وتراتيل وقراءات وتفاسير، هي في عمقها تصبو إلى هدف واحد، وهو الاتِّحاد بالربِّ يسوع المسيح الإله المخلِّص الَّذي تجسَّد لنقتبل الإلهيَّات. هذا الاتِّحاد يسبقه توبة ورجوع إلى الذات وإفراغ للذات واتِّضاع كبير للامتلاء من الروح القدس. هذا تمامًا ما يقصده اللاهوت الشرقيُّ بالحياة النسكيَّة، الَّتي تأتي من الكلمة اليونانيَّة ascétisme - ασκητισμός وهي المواظبة، وفعل المواظبة هو الاستمرار بثبات.
صحيح أنَّ المعنى الأدبيَّ والشائع لفعل النسك يطبَّق على النسَّاك الَّذين عزلوا أنفسهم عن الدنيا وتكرَّسوا للصلاة وعبادة الربِّ، إلَّا أنَّ الأمر لا يقتصر عليهم فحسب بل على كلِّ عاشق للربِّ يسوع المسيح إكليريكيًّا كان، أم راهبًا، أو غير إكليريكيٍّ. فدعوة المسيحيِّ هي المواظبة على الجهاد المقدَّس في تنقية النفس والجسد لتحقيق القداسة كما دعانا الربُّ إلى أن نكون، فحياتنا على الأرض هي موعد للقاء يبدأ من هنا ويستمرُّ في الحياة الأبديَّة مع مخلِّصنا إنْ أحسَنَّا المواظبة، كما يقول الرسول بولس: «فإذ لنا هذه المواعيد أيُّها الأحبَّاء لنطهِّرْ ذواتنا من كلِّ دنس الجسد والروح، مكمِّلين القداسة في خوف الله» (2 كورنثوس 7: 1).
فحتَّى كلمة الراهب، أي الزاهِد والعائش في مخافة الله باستمرار، هي دعوة كلِّ مسيحيٍّ أينما وُجد وأيًّا كان وضعه الاجتماعيُّ، متزوِّجًا كان أم غير متزوِّج، لأنَّنا جميعنا مدعوُّون إلى أن نزهد بكلِّ شيء ونعشق الجمال الإلهيَّ الَّذي نسمِّيه الفيلوكاليا Philocalie. وللإضافة في الشرح، الكنيسة تسمِّي- monachós μοναχός ما يقصده الناس بالراهب، وتترجم بالمتوحِّد - mónos μόνος، ودخلت الكلمة إلى اللاتينيَّة فكانت monachus وأصبحت بالإنكليزيَّة monk وبالفرنسيَّة moine. مع الملاحظة أنَّ المتوحِّد يكون في شركة مع الحظيرة الرهبانيَّة حتَّى ولو كان يعيش في قلَّاية وحده لمدَّة من الزمن. ويكون أيضًا في شركة مع كلِّ الناس في صلواته، لهذا يقال بأنَّه يترك الكلَّ ليتَّحد بالكلِّ من أجل الكلِّ، أي يترك كلَّ ما هو ترابيٌّ ليتَّحد بالربِّ من أجل خلاص كلِّ الناس وخلاص نفسه.
الزمن الَّذي دخلناه، زمن التريودي، يبدأ مع أحد الفرِّيسيِّ والعشَّار ويمتدُّ إلى سبت النور، السبت العظيم، يحاكي مسيرتنا الخلاصيَّة المليئة بالتوبة والصلوات اليوميَّة. هو زمن نراجع فيه أنفسنا وكلَّ أعمالنا وأفكارنا ونوايانا على ضوء الإنجيل، ويكون بمثابة زوَّادة لكلِّ السنة، طبعًا مع مراجعة يوميَّة مع غروب كلِّ نهار. فالمراجعة لا تتوقَّف ما دمنا نحن على قيد الحياة.
يطلُّ علينا الأحد الثاني من فترة التهيئة من التريودي مع مثل الابن الشاطر. الابن الَّذي ترك منزل أبيه وبدَّد بالخلاعة والانحراف ميراثه الَّذي أعطاه إيَّاه والده، وبات مفلسًا، وانتهى به الأمر أجيرًا يعمل في إطعام الخنازير مشتهيًا طعامهم.
جمال المثل في الخطوة القياميَّة الَّتي قام بها الابن. ففي وسط الجحيم الَّذي كان فيه، نهض تائبًا وقام قاصدًا منزله الأبويَّ، كأنَّه بذلك يردِّد المزمور 83 (84): «ما أحبَّ مساكنك يا ربَّ القوَّات! تشتاق نفسي وتتوق إلى ديار الربِّ». وأكثر من ذلك، اعتبر نفسه عديم الاستحقاق ليكون ابنًا، وارتضى أن يكون مجرَّد أجير مكمِّلًا المزمور نفسه: «خيرٌ لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي مِن أن أسكن في مساكن الخطأة».
كبيرة كانت خطيئته، ولكنْ عظيمة كانت توبته. ولأنَّ الربَّ أبٌ حنون، قبِلَ توبته الصادقة وأسرع يلاقيه قبل وصوله، لأنَّه كان ينتظره بشوق كبير، وأعاد له بنُوَّته وضمَّه إلى صدره.
محبَّة الأب الَّذي يمثِّل الآب السماويَّ كشفت عورة ابنه الثاني الأكبر الَّذي كان يعتبر نفسه محافظًا بأمانة كبيرة على بنُوَّته لكونه لم يترك المنزل الأبويَّ، ولكنَّه كان في الحقيقة ناقص المحبَّة. فعوضًا عن أن يفرح بعودة أخيه الأصغر الضالِّ، ويفرح مع والده الَّذي كان قلبه مشطورًا، وأصبح الآن ملتئمًا، شطره بدوره بقلبه الجاف وبقي خارج المنزل ولم يرد أن يدخل.
قد يكون الأخ الأكبر بالمفهوم الترابيِّ محقًّا، ولكن نحن أبناء السماء ولسنا أبناء الأرض، وأعظم ميراث يكون عندنا هو الدخول في محبَّة الله.
مثل أعطانا إيَّاه يسوع لتكبر المحبَّة فينا ونفرح بعودة كلِّ واحد منَّا، لأنّنا كلّنا معرّضون أن نتوه.
فكم من مرَّة نكون مثل الأخ الأكبر، نفتخر بانتماءٍ متزمِّتٍ مريضٍ متحزبٍّ بعيد كلَّ البعد عن الإيمان المسيحيِّ الحقيقيِّ؟
وكم من مرَّةٍ نكون نحن وراء شطر إخوتنا وأخواتنا عن المنزل الأبويِّ، معتبرين أنفسنا الورثاء الأمناء والشرعيِّين، غافلين عن كوننا عبيدًا بطَّالين، وهمُّنا كلُّه المراكز والمناصب والألقاب الَّتي أفرغنا محتواها بعدم توبتنا، فأعطت شوكًا وعوسجًا بدلًا من أن تثمر أزهارًا يفحُّ منها عبير الملكوت السماويِّ، لأنَّنا أمسينا خالين من المحبَّة الأبويَّة؟.
وكم من مرَّة نقيس الأمور بمفهومنا الأرضيِّ المحدود لا بمنطق الربِّ اللامحدود، فنهدم عوضًا عن أن نبني؟.
وكم من مرَّة نكون حاضرين في منزل أبينا بالجسد من دون الروح، فنكون كأجساد ميتة مطرَّزة بثياب بالية لا حياة فيها؟.
فكما عاد الابن الشاطر عريانًا تائبًا منسحقًا يطلب الرحمة من أبيه، هكذا نحن مدعوُّون إلى أن نرجع إلى أبينا السماويِّ لنلبس مجد الربِّ الَّذي هو وحده يغنينا، ونبني منزلنا بمداميك المحبَّة الصافية البعيدة عن كلِّ محاباة وتمييز، والَّتي تجعلنا حقًّا أبناء المنزل لا شاطريه.
إلى الربِّ نطلب.