لم يخالف رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري التوقّعات في الذكرى السنوية العشرين لاغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وهي المناسبة التي "استنفر" لها تيّاره كما لم يفعل منذ سنوات، فخرج بكلمة سياسية شاملة، وإن مقتضبة، هي الأولى من نوعها منذ تعليقه العمل السياسي، أعلن فيها عودة "التيار الأزرق" إلى المشهد السياسيّ، ولو بشكل مبطَن، عبر لجوئه إلى شعار "كل شي بوقته حلو"، للعام الثاني على التوالي.

لم يكن يُتوقَّع من الحريري أكثر من ذلك، فالمهرجان الذي نظّمه تيّاره تحت عنوان "بالعشرين عالساحة راجعين"، لم يكن يُنتظَر منه أكثر من هذا الإعلان، ولو "بالغ" البعض في التقديرات، لجهة الاعتقاد بأنّ الحريري قد يعلن العودة فورًا إلى العمل السياسي، وبالتالي البقاء في لبنان، وفتح أبواب "بيت الوسط"، وهي خطوة يرجَّح أن تبقى مؤجَّلة إلى حين، وربما إلى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، بحيث يعود الرجل على أساس "صلب".

ولعلّ مهرجان "المستقبل" في 14 شباط حقّق الغايات المرجوّة منه، خصوصًا لجهة "الرسائل" التي أريد إيصالها لأكثر من طرف، في الداخل والخارج، سواء في الشكل، مع الحشود الغفيرة التي احتضنتها ساحة الشهداء، مكرّسة "زعامة" للحريري في مكانٍ ما، لم تحجبها "الغربة القسرية" التي امتدّت لسنوات، أو في المضمون، من خلال خطاب سمّى الأشياء بمسمّياتها، ولكنّه لم يخرج عن الأدبيّات التي لطالما التزم بها "المستقبل".

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المهرجان، برسائله العابرة للحدود، جاء "مكمّلاً" لما كان "المستقبل" بدأه على مدى الأسابيع الأخيرة، وكرّسه الحريري على مدى الأيام الماضية، بجولاته السياسية، وزياراته الرسمية، ما يطرح علامات استفهام، حول مرحلة ما بعد هذه الزيارة التي يقول البعض إنّها ستمتدّ لأيام، فهل يمكن الحديث عن "تثبيت" خيار العودة النهائية لـ"الشيخ سعد" إلى المشهد، وهل من "خارطة طريق" محضّرة لذلك؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ الحريري نجح في "الاختبار" الذي مثّلته الذكرى السنوية العشرون لاغتيال رفيق الحريري، سواء على مستوى الشكل، الذي عبّرت عنه الحشود الغفيرة، التي هتفت باسمه، كما كانت تفعل منذ العام 2005، أو على مستوى المضمون، من خلال "تثبيت" حضوره السياسي، وبالتالي حضور تيّاره في المعادلة، ما يمهّد لعودة مشروعة، بل "بديهية" بالنظر إلى الحيثية التي لم يخسرها رغم الغياب.

فعلى مستوى الشكل، لا يمكن التعامل مع العدد الذي نجح "المستقبل" في تحشيده في الذكرى سوى بوصفه "إنجازًا"، قد يفوق في دلالاته ومعانيه، من حيث الشكل، أهمية المدلولات السياسية لمضمون الكلمة التي ألقاها الحريري، علمًا أنّ تيار "المستقبل" لم ينجح عمليًا في تأمين مثل هذا الحشد في السنوات الأخيرة قبل تعليق العمل السياسي، ما يعزوه كثيرون إلى حالة من "التململ" لدى أنصاره، يبدو أنّها تحوّلت اليوم إلى ما يشبه "الحنين".

ومن خلال هذه الحشود، أراد الحريري توجيه الرسالة الأساسيّة من المهرجان، والتي تتفوّق على كل الرسائل الأخرى، وهي أنه لا يزال يحتفظ بموقعه الثابت في المعادلة، بل أنه لا يزال "الزعيم الأول" على الساحة السياسية السنّية، باعتبار أنّ أحدًا من القادة السنّة لا يبدو قادرًا على حشد الجماهير بهذا الشكل، لكونه لا يمتلك الحيثية التي يتمتع بها الحريري، الذي أراد على ما يبدو أن يثبت للقاصي والداني، أنّ كلّ "البدلاء" لم يؤسّسوا لحيثية حقيقية وفعليّة.

ومن الشكل إلى المضمون، تتنوّع الرسائل التي أراد الحريري إيصالها، وقوامها أنه "لم يتغيّر" على الرغم من غربته القسرية، فهو أبدى حماسة بإضافة لقب "المجرم" على اسم رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، وهو المتهم بالاغتيالات السياسية، بما في ذلك اغتيال الحريري الأب، ولكنّه حرص أيضًا على الالتزام بخطاب "وطني" في الداخل، عنوانه الشراكة والتضامن، موجّهًا بذلك رسائله إلى المكوّن الشيعي بشكل خاص.

وفي المضمون أيضًا، جاءت رسائل الحريري العابرة للحدود، والتي دخل فيها على خطّ تحديد الموقف من العلاقات المفترضة مع سوريا، في ضوء المتغيّرات التي حصلت، فضلاً عن حديثه عن "الفرصة الذهبية" التي يوفّرها انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة، لتكرّس عودة "عملية" للرجل إلى الشأن السياسي، توّجها بكلامه الصريح عن أنّ تيار "المستقبل" سيكون جزءًا من كل الاستحقاقات والمحطات الوطنية المقبلة.

لا يعني ما تقدّم أنّ الحريري سيُقرِن مواقفه المستجدّة، بعودة "فورية" إلى السياسة، أو حتى إلى الإقامة في بيت الوسط، وهو بقوله "كل شي بوقته حلو" ألمح إلى أنّ الأمر مؤجّل، إلا أنّه قد يعني منح "ضوء أخضر" لتيّاره للانخراط مجدّدًا في الشأن العام، وبدء التحضيرات اللازمة ليكون التيّار جزءًا من الاستحقاقات الوطنية المقبلة، وعلى رأسها الانتخابات النيابية التي يُعتقَد أنّها ستكون "المحطة الفاصلة" في سيرة التيار.

في هذا السياق، يقول العارفون إنّ الحريري أراد أن يكون مهرجان الذكرى العشرين، برسائله الواضحة، بمثابة "تثبيت" للعودة من حيث المبدأ، أو ربما "تعليق" لقرار تعليق العمل السياسي، على أن تكون العودة الفعلية والكاملة "تدريجيّة"، بعد نضوج ظروفها بشكل كامل، على المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما يتطلب خريطة طريق متعددة الأبعاد، تمرّ حتمًا عبر الانتخابات النيابية المفترضة العام المقبل.

أراد الحريري "تبرئة ذمّته" إن صحّ التعبير، حين قال إنّ الأزمات بقيت كما هي بعد ثلاث سنوات على خروجه من المشهد، لكنّه أراد أيضًا بين السطور أن يقول إنّ كلّ ما جرى، على مدى السنوات الثلاث الماضية، يحتّم عودته، لممارسة الدور المطلوب منه، ولعلّه تقصّد بذلك أن يشير، ولو بشكل غير مباشر، إلى حالة "التضعضع" في الساحة السنّية، والتي تجلّت بوضوح في الاستحقاقات السياسية الأخيرة.

من هنا، يمكن استنتاج أنّ الحريري "ثبّت" عودته في مهرجان 14 شباط، بعدما أضفى عليها "الشرعية" اللازمة، على مستوى الشعبية والميثاقية، وكذلك السياسة، لكنه ترك الهامش مفتوحًا أمام توقيت العودة النهائية وشكلها، على أن تكون الخطوة التالية انخراط تيار "المستقبل" مجدّدًا في الشأن العام، تحضيرًا للاستحقاقات، ولا سيما الانتخابات، التي ليس خافيًا على أحد أن الحريري يريد أن يحصل بموجبها على كتلة وطنية واسعة، تشكّل دعامة الانطلاقة.

لم يعد السؤال اليوم إذًا، إن كان الحريري سيعود، ولكن متى وكيف يعود، فهل تكون العودة على دفعات، بعيدًا عن الزيارة السنوية اليتيمة، أم تبقى مؤجّلة حتى موعد الانتخابات، وإذا كانت عين الرجل على الاستحقاق الانتخابي، فوفق أيّ أسُس يمكن أن يخوضه، وبموجب أيّ تحالفات، خصوصًا أنّ الكثير تغيّر منذ تعليق عمله السياسي، وبالتالي فإن معادلات الماضي، وربما تحالفاته، لم تعد سارية اليوم!.