فجأة، انقلبت المعطيات والمؤشرات، وبات الانسحاب الاسرائيلي من المناطق التي احتلتها القوات العدوة في جنوب لبنان، امراً قريب المنال بعد ان كان قبل ايام قليلة من شبه المستحيل. سوّقت اسرائيل الاسبوع الفائت انها ترغب في تمديد اتفاق وقف الاعمال القتالية مع لبنان الى 28 شباط (اي 10 ايام اضافة الى الايام الـ10 الممددة سابقاً)، فرفض لبنان ذلك، فكان الاقتراح الثاني ان تبقى في 5 اماكن استراتيجية لفترة قصيرة لضمان امنها، فكان الجواب اللبناني ايضاً رافضاً، مع اصرار قاده رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ودعمه فيه رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام. ازاء هذا الامر، يبدو ان الاميركيين دخلوا على الخط بقوة، وقرروا ممارسة الضغط على اسرائيل للانسحاب من المناطق التي سيطرت عليها بعد اعلان وقف الاعمال العدائية مع لبنان، بحلول 18 شباط الحالي. فما الذي تغيّر؟.
يقول متابعون للتطورات على الحدود الجنوبية، ان تكثيف الولايات المتحدة الاميركية تحركها على الخط اللبناني، نابع من تفاهم مسبق مع اسرائيل على تقليص نفوذ حزب الله تمهيداً لشلّ جناحه العسكري على المدى المنظور، ومن نافل القول ان هذه الفترة تشكل الفرصة الابرز منذ عقود طويلة من الزمن لتحقيق هذا الهدف. فما فعلته اسرائيل بدعم اميركي ودولي في المنطقة ككل وليس فقط في لبنان، من شأنه ان يصعّب كثيراً على حزب الله اعادة قوته الى سابق عهدها، ولكن الاهم ان ما شهده لبنان في الآونة الاخيرة من تغيير سياسي ملموس، اجبر الحزب ومعه حركة امل، على اتخاذ خطوات ميدانية متطرفة لاثبات وجوده. لم يكن الثنائي راضياً عن انتخاب عون رئيساً للجمهورية، ولكنه تكيّف مع الامر بعد الضغوط، كما لم يكن مطلقاً في وارد القبول بسلام رئيساً للحكومة بعد ان كان التوجه، كما بات معلوماً لاختيار نجيب ميقاتي.
ويضيف المتابعون ان تحقيق الانسحاب من شأنه ان يعطي دفعاً قوياً جداً للعهد وللجيش وان يثبت للمعارضين ان انتخاب قائد الجيش السابق كان بالفعل هو الحل والطريق الصحيح لنهوض لبنان، بحيث يتم سحب ذريعة "اجبار اسرائيل على الانسحاب بالقوة"، اذ تكون قد انسحبت عبر التفاوض السياسي، وهو ما سيشجّع من دون اي شك، الاسراع في طرح موضوع الاستراتيجية الدفاعية التي سيكون هدفها الاول انهاء الوجود العسكري لحزب الله، وهي خطوة تستأهل، وفق وجهة نظر واشنطن وتل ابيب، تقديم الدعم اللازم للسلطات اللبنانية. وعند السؤال عن السبب الذي دفع الاميركيين والاسرائيليين الى تغيير مقاربتهم للامور في لبنان اليوم، يأتي الجواب ان حزب الله اليوم ليس حزب الله امس، وسوريا اليوم ليست سوريا الامس، وحتى ايران اليوم لم تعد ايران الامس. وبالتالي، من غير المقبول ان يبقى لبنان اليوم كما كان لبنان الامس، واذا تم استغلال هذه النقطة تحديداً، فسيجد الحزب نفسه ضعيفاً عسكرياً في المقام الاول، ولكنه ايضاً لن يجد الدعم اللازم ضمن البيئة اللبنانية التي احتضنته، وضمن الدول المحيطة به التي امّنت وصول الامدادات بحرية وسهولة.
ويرى المتابعون ان هذا الامر لا يعني بالضرورة تحوّل لبنان الى استقلالية طالما حلم بها اللبنانيون، لانه سيكون لاسرائيل الباع الاطول في التهديد وفرض بعض الامور (بغطاء اميركي طبعاً)، وبالتالي لن يكون الاستقلال تاماً، بل سيكون مشابهاً للوضع في الدول المجاورة ايضاً، وخصوصاً في سوريا، وما قد تشهده مصر والاردن من تحولات دراماتيكيّة يهدد بها الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وسيكون الثنائي الشيعي امام التحول الى السياسة الداخليّة بنفوذ اقل بكثير مما اعتاد عليه، مع توقّع للمتابعين ان يركب لبنان قطار التطبيع في مرحلة لاحقة.