فجّرت أزمة الطائرة الإيرانية التي مُنِعت من الهبوط في مطار بيروت، بعد تهديد ووعيدٍ إسرائيلي، سجالاً واسعًا في الداخل اللبناني، بين معسكرَين، أحدهما يقوده "حزب الله"، الذي اعتبر قرار المنع "خضوعًا وإذعانًا" للشروط الأميركية الإسرائيلية، وبالتالي ضربًا لكلّ معاني السيادة وتجلّياتها، فيما رآه المعسكر الثاني "إجراءً احترازيًا" لا بدّ منه، باعتبار أنّ المسؤولية تقتضي أخذ التهديدات الإسرائيلية بجدّية، وعدم الاستهانة بها بأيّ شكل من الأشكال.
سريعًا، توسّع هذا السجال، فوصل إلى الشارع، مع تحرّكات أخذت شكلاً "عفويًا" في بادئ الأمر، رفضًا لما سمّاه "حزب الله" التدخّل الإسرائيلي بالشؤون السيادية اللبنانية، وتحديد من يحقّ له الهبوط في المطار، ومن لا يحقّ له ذلك، لكنّها خرجت عن السيطرة سريعًا أيضًا، عبر قطع طرقات حيويّة، كطريق مطار بيروت، وعبر حوادث "خطيرة"، من نوع الاعتداء على آلية قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل) وإحراقها.
بعد ذلك، حاول "حزب الله" استعادة زمام المبادرة، من خلال اعتصام "منظّم" دعا إليه، في محاولة منه للتنصّل من الحوادث "الفردية" التي حمّلها بعض المقرّبين منه لـ"طابور خامس"، وخرج منهم من يتّهم "القوات اللبنانية" بالوقوف خلفها، إلا أنّ الأمور خرجت عن السيطرة مرّة أخرى، ليقع سجال "غير مباشر" بين الحزب والجيش اللبناني، خصوصًا بعد تلميح الأول إلى أنّ هناك من يريد "الزجّ بالجيش في مواجهة مع أهله وشعبه"، وفق وصفه.
لعلّ الخلاصة البديهيّة من كلّ هذه التطورات، أنّ "حزب الله" ليس مرتاحًا، وأنّ جمهوره "مُحبَط"، بل "غاضب"، وهو غضب قد لا يكون واقعيًا اختزاله بأزمة الطائرة الإيرانية، غير المعزولة على ما يبدو عن سياقٍ عام بدأ منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، على المستويين السياسي والعسكري، فكيف يمكن قراءة موقف الحزب، وما حقيقة الانطباع بأنّ جمهور الحزب يستشعر نوعًا من "الانكسار"، وهل فقد الحزب السيطرة على هذا الجمهور؟!.
في المبدأ، ليس خافيًا على أحد أنّ أزمة الطائرة الإيرانية ليست سوى "الفصل الأخير" من سلسلة من التراكمات التي بدأت منذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي هلّل له "حزب الله" بوصفه انتصارًا، لم ينعكس فعليًا على أرض الواقع في الاستحقاقات السياسية والعسكرية، بعدما اضطر إلى تغيير الكثير من أدبيّاته، وأيضًا تكتيكاته، نتيجة فقدانه للكثير من الامتيازات التي كان يتمتّع بها سابقًا، وخسارته جزءًا لا بأس به من "النفوذ" الذي جعله يتحكّم بالقرار السياسيّ لسنين طويلة.
لعلّ النقطة الأولى في هذا المسار تمثّلت في استحقاق الانتخابات الرئاسية، الذي تعامل معه "حزب الله" بشكل مختلف عمّا كان عليه قبل الحرب، إذ لم يتخلّ عن مرشحه "الثابت" فحسب، أي رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، بل انفتح على "تسوية" كان عنوانها انتخاب الرئيس جوزاف عون، علمًا أنّ الأخير كان مطروحًا منذ اليوم الأول للفراغ الرئاسي، إلا أنّ الحزب كان يشهر في وجهه ما يشبه "الفيتو غير المُعلَن".
وبعدما مرّ استحقاق الرئاسة بسلام، إن صحّ التعبير، مع حديث الحزب عن "ضمانات" تلقّاها من أجل الانخراط في "التسوية"، جاء استحقاق رئاسة الحكومة ليُحرِجه إلى حدّ بعيد، مع "الهزيمة" التي مُني بها مرشحه، أي رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، بعدما ظنّ الأخير أنّ عودته "مضمونة" بموجب "الضمانات" التي قال الحزب إنّه تلقاها، وهو ما جعل الأخير يخرج عن طوره، والكلّ يذكر الموقف الناري للنائب محمد رعد من قصر بعبدا آنذاك.
يومها، لم يتأخّر جمهور "حزب الله" في الهجوم على رئيس الحكومة الذي تمّ تكليفه، أي نواف سلام، وصولاً لحدّ "تخوينه"، ليتفاجأ بانفتاح القيادة عليه، والتمسّك بالمشاركة في حكومته، ولو وفق معايير غير واضحة، وعلى الرغم من بعض التحليلات التي صوّرت الحزب "خاسرًا" بقبوله الدخول في حكومة تعمّد القيّمون عليها "إقصاء" حلفائه وأصدقائه، من أجل حرمانه من "الثلث المعطّل"، فيما كان الحزب يخوض سابقًا المعارك من أجل تمثيل هؤلاء.
وقد جاء كلّ ذلك بالتوازي مع خطاب "الركون إلى الدولة" الذي اعتمده "حزب الله" في مواجهة الخروقات الإسرائيلية اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، على الرغم من إدراكه أنّ إسرائيل حقّقت في "زمن" وقف إطلاق النار ما عجزت عن تحقيقه في مرحلة الحرب، بل إنّ كثيرين يسجّلون على الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم ظهوره في خطاب "مسجَّل" بعد تمديد الاتفاق، وهو يجزم بأنّ التمديد لن يحصل، وأنّ الحزب لن يوافق عليه بأيّ شكل من الأشكال.
عمومًا، وبعيدًا عن تحليل هذه "التراكمات" التي وضعت "حزب الله" في موقف لا يُحسَد عليه ربما، فإنّ النتيجة وفق العارفين، أنّ "حزب الله" اليوم ليس نفسه "حزب الله" قبل أشهر قليلة، حتى على مستوى جسمه التنظيمي وبيئته الحاضنة، بدليل ما يُحكى عن "صراع أجنحة" قد لا ينطوي فعلاً على مبالغات، ما يتطلب منه اليوم قبل الغد، إيلاء هذه المسألة أهمية قصوى، ووضعها ضمن أولويات "المراجعة" المطلوبة منه، على المستوى السياسي قبل العسكري.
قد يكون ما حصل على طريق المطار في الأيام القليلة الماضية معبّرًا في هذا السياق، وتحديدًا ما حصل ليل الجمعة، حين استهدف المتظاهرون الغاضبون آلية اليونيفيل، ليتحدّث قياديّون في "حزب الله"، بينهم غالب أبو زينب، عن "فوضويين غوغاء"، ويزايد عليه بعض المحلّلين المحسوبين على الحزب، ممّن حاولوا رمي كرة الاتهام في ملعب "القوات"، فيما كان صحافيون آخرون محسوبون على الحزب، يصفون هؤلاء بـ"الأحرار الغاضبين"، ويدعون بالمجد لهم.
الأكيد، بحسب ما يقول العارفون، أنّ أزمة الطائرة الإيرانية، على أهمّيتها وحساسيّتها بالنسبة لجمهور الحزب، المرتبط عضويًا بإيران، رغم كلّ ما أثير عن هذه العلاقة في الأشهر القليلة الماضية، جاءت لتزيد "الضغط" على جمهورٍ يستشعر منذ انتهاء الحرب، بشيءٍ من "الانكسار"، إن صحّ التعبير، "انكسار" ترجم في الاستحقاقات السياسية والعسكرية المختلفة، بما لا ينسجم، بل ربما يتناقض، مع خطاب "الانتصار" الذي اعتمده الحزب.
من هنا، يشدّد العارفون على أنّ المطلوب من الحزب اليوم قبل الغد، إيلاء هذا الملفّ أهمية قصوى، من أجل إعادة السيطرة على هذا الجمهور، وربما "ضبطه" في مكانٍ ما، تفاديًا لردود فعل غير محسوبة كالتي حصلت قبل يومين مثلاً، وكما حصل قبل ذلك في مسيرة الدراجات النارية الشهيرة، وهي "حوادث" وضعت القيادة في مكان ما في مواجهة جمهورها، بشكل قد لا يكون مسبوقًا في مسيرة الحزب، وعلاقته "المنظّمة" مع هذا الجمهور.
ثمّة من يقول إنّ هذه الصورة الذهنية التي أفضت إليها "التراكمات" منذ انتهاء الحرب، ستتغيّر يوم الأحد المقبل، مع التشييع المهيب المنتظر للأمين العام السابق السيد حسن نصر الله، ومعه "خليفته غير المُعلَن" السيد هاشم صفي الدين، وهو تشييع يتعامل معه الحزب بوصفه "استفتاء"، ويعتبر أنّه سيشكّل "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، يمكن الانطلاق بعدها وفق أسُس جديدة، ولكن بما ينسجم مع شعار التشييع.. "إنّا على العهد"!.