يتقدّم "حدث" تشييع الأمين العام السابق لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، ومعه "خليفته" السيد هاشم صفي الدين، اهتمامات الأوساط السياسية، على الرغم من كثرة الاستحقاقات والأولويات، بدءًا من استمرار الخروقات الإسرائيلية الفاقعة للسيادة اللبنانية، بعد الإبقاء على احتلال خمس نقاط وُصِفت بـ"الاستراتيجية"، ومواصلة سياسة الاغتيالات كما لو أنّ شيئًا لم يكُن، وصولاً إلى جلسة الثقة المرتقبة للحكومة، التي أنجزت بيانًا وزاريًا خلا للمرة الأولى من ذكر المقاومة.

لكن ثمّة في الأجواء ما يوحي بأنّ كلّ هذه الاستحقاقات ستبقى مؤجَّلة إلى "ما بعد" التشييع المُنتظَر يوم الأحد المقبل، والذي يتعامل معه "حزب الله" باعتباره استثنائيًا وتاريخيًا، تمامًا كما كان السيد نصر الله بمنظوره قائدًا استثنائيًا وتاريخيًا، تخطّى برمزيّته حدود الحزب، بل كان عابرًا للحدود، حيث تجاوز عمليًا البعد اللبناني وحتى الإقليمي، وهو يفترض أنّ التشييع يجب أن يعكس هذا البُعد، بما ينطوي عليه من رسالة "وفاء" لمن طبع مسيرته لثلاثة عقود ونيّف.

يريد "حزب الله" أن يحول التشييع الذي يصفه سلفًا بـ"المهيب"، إلى ما يشبه "الاستفتاء"، ولعلّ هذا بالتحديد ما يفسّر الشعار الذي اختير للمناسبة، أي "إنّا على العهد"، مع ما يعنيه من استكمال للأسُس والمبادئ التي أرساها السيد نصر الله على امتداد توليه للأمانة العامة، خصوصًا في مواجهة الحملات القاسية التي تعرّض لها في الآونة الأخيرة، والتي تقاطعت على أنّ الحزب انتهى "عمليًا"، وأنّ تشييع السيد نصر الله هو تشييع للحزب في حقيقة الأمر.

لكنّ "حزب الله" يدرك أيضًا أنّ التحدّيات الماثلة أمامه ليست بقليلة، وسط حديث عن "عمليات تخريب" قد تعمد إليها إسرائيل للتشويش على مشهد التشييع، أو بالحدّ الأدنى، "تهويل" بدأ باكرًا، في محاولة ربما للتقليل من حجم الحشود المشاركة، فكيف سيتعامل الحزب مع كلّ ذلك، وأيّ رسائل يسعى لإيصالها من خلال هذا التشييع؟ وأبعد من ذلك، ماذا عن مرحلة "ما بعد التشييع"، وهل يراهن "الحزب" على صورة تعيد له شيئًا من الهيبة التي فقدها مؤخرًا؟!.

في المبدأ، ليس خافيًا على أحد أنّ "حزب الله" يتعامل مع "استحقاق" تشييع السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، كما لم يتعامل مع أيّ "استحقاق" آخر، حتى إنّه لم يصدر موقفًا واضحًا من استمرار الاحتلال الإسرائيلي لخمس نقاط في الأراضي اللبنانية، بانتظار "تمرير" مناسبة التشييع، التي يريدها برسائل "نوعية" في الشكل والمضمون، بحيث تتداخل على خطّها معاني الوفاء والصمود، وكذلك التحدّي، في مواجهة كلّ الحملات.

ولعلّ رسالة "الوفاء" تأتي على رأس القائمة، لأنّ "حزب الله" يريد أن يثبت مرّة أخرى أنّ أمينه العام السابق لم يكن مجرّد "قائد عادي"، وهو الذي استطاع على مرّ السنوات الماضية، أن يرسي علاقة "استثنائية" بين القيادة والجمهور، قد يختصرها هتاف "لبّيك يا نصر الله"، الذي يُعتقَد أنّ الجماهير لن تتخلى عنه بسهولة، وهو يريد من خلال الحشد الذي يريده من الأضخم تاريخيًا، أن يقول إنّ هذا الجمهور سيبقى وفيًا "للسيّد"، بصورة أو بأخرى.

ويندرج في هذا السياق أيضًا شعار "إنّا على العهد"، الذي يتداخل أيضًا مع الرسالة الثانية المتوخّاة من "حدث" التشييع، وهي رسالة "الصمود"، في مواجهة ما يعتبرها المحسوبون على الحزب، "بروباغندا خبيثة" يقودها البعض، ممّن يحاولون الإيحاء بأنّ التشييع سيكون تشييعًا للحزب ككلّ، وليس لقائده التاريخيّ فحسب، بل إنّ هؤلاء يستغربون أن تصل الحملات لحدّ "التشكيك" بحجم المشاركة، ولو أنّ الرد عليهم يبقى مؤجَّلاً إلى الأحد.

وفي السياق، تحضر أيضًا رسائل "التحدّي" التي يختزلها التشييع المرتقب أيضًا، فالقيّمون والمنظّمون يشدّدون على أنّهم ماضون في التشييع مهما كانت الصعوبات، ومهما حاول الإسرائيليون تحديدًا التشويش عليه، علمًا أنّ حصول هذا الأمر سيكون برأيهم دليلاً على "قوة" السيد نصر الله، الذي لا يزال "يؤرق" إسرائيل حتى بعد اغتياله، بل إنّهم يعتبرون أنّ مثل هذا "التشويش" قد يكون له مفعول عكسي، لجهة حجم المشاركة ونوعها.

استنادًا إلى ما تقدّم، يبدو واضحًا أنّ "حزب الله" يريد أن يوجّه الكثير من الرسائل في الشكل والمضمون، من خلال تشييع السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، تتقاطع بمجملها عند ثابتة "الصمود" رغم كلّ المخططات والمؤامرات، التي يعتقد أنّها لم تنتهِ فصولاً، إلا أنّ هناك علامات استفهام تُطرَح عمّا "بعد التشييع"، فهل يريد الحزب "توظيف" مشهدية الأحد في السياسة مثلاً، أم أنّها ستثبّت مرحلة "إعادة تموضعه"، إن صحّ التعبير؟!.

لا شكّ أنّ "حزب الله" يريد بحسب العارفين، أن تكون محطّة التشييع بمثابة "نقطة فاصلة" بين مرحلتين، ولا شكّ أنّه يريد من خلالها أن يقول للقاصي والداني إنّه لا يزال صامدًا، وإنّ كلّ الرهانات على القضاء عليه وإنهائه خابت، بدليل الحشود التي لا يريد أن تؤكد على حيثيته الشعبية فحسب، بل على "تجديد البيعة" إن صحّ التعبير، علمًا أنّ هناك من يريد أن يكون التشييع مناسبة لـ"مبايعة" الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، لاستكمال المسيرة.

لكن، لا شكّ أيضًا وفق العارفين، أنّ هذه الصورة على أهميتها، لا يمكن أن تكرّس "انقلابًا"، إن صحّ التعبير، على التغيير الذي طرأ على أدبيّات "حزب الله" في الآونة الأخيرة، فـ"حزب الله" ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة ليس كما قبلها، بل قد لا يكون مبالَغًا به القول إنّ "حزب الله" ما بعد السيد حسن نصر الله لا يمكن أن يكون كما قبل اغتياله، وقد تجلّى ذلك بوضوح في كلّ الاستحقاقات الماضية، خصوصًا على المستوى الداخليّ.

من هنا، يعتقد العارفون أنّ "حزب الله" سيحاول الاستفادة من مشهديّة الأحد، لاستعادة بعض "الهيبة" في الداخل، خصوصًا في مواجهته مع قوى سياسية باتت تتصرف معه كما لو أنّه "مهزوم"، أو حتى كما لو أنّه خسر حيثيّته الشعبية والسياسية، إلا أنّ ذلك لا يعني العودة إلى مراحل سابقة، أولاً لأنّ كل المؤشرات تؤكد أن الحزب ليس قادرًا على ذلك، وثانيًا لأنّ عناوين المرحلة الحالية مختلفة، وتتطلب من الحزب أن يتكيّف معها من أجل الاستمرار.

ثمّة من يعتقد أنّ المحكّ الأساسيّ وسط كلّ ذلك سيكون "المراجعة" المطلوبة من الحزب، لأداء المرحلة الماضية، بمعزل عن أيّ رسائل "سياسية" يمكن أن يحملها التشييع، ويمكن أن تفيد في رفع أو خفض أسهم، لكنها لن تكون كافية لـ"إنعاش" الحزب إن صحّ التعبير، وهو الذي يدرك القاصي والداني أنّ واقعه اليوم ليس كواقعه بالأمس، بل إنّ بعض الأحداث الأخيرة أوحت بفقدانه القدرة على "ضبط" جمهور يستشعر "انكسارًا" قد يعزّزه تشييع، سيؤكد لمن لم يصدّق بعد، أو بالأحرى لا يريد أن يصدّق، أنّ "زمن" السيد نصر الله قد ولّى!.