في الثامن من تشرين الأول 2023، وبعد يومٍ واحدٍ من عملية "طوفان الأقصى"، انطلقت ما سُمّيت بـ"جبهة الإسناد" من جنوب لبنان، لتتحوّل بعد أشهر إلى "حربٍ شرسة" دفع "حزب الله" فاتورة باهظة لها، وقد عُدّت الأقسى عليه في تاريخه، بعدما خسر بنتيجتها معظم قيادات الصف الأول فيه، بمن فيهم أمينه العام "التاريخي" السيد حسن نصر الله، وخليفته السيد هاشم صفي الدين، إضافة إلى معظم القيادات العسكرية الأساسيّة والمحوريّة.

وإذا كان "حزب الله" يستعدّ لتشييع السيدين نصر الله وصفي الدين في مأتمٍ مهيب، يعمل بكلّ طاقته حتى يكون "تاريخيًا واستثنائيًا"، وقد حوّله إلى ما يشبه "الاستفتاء"، فإنّ صفحة الحرب لن تُطوى على الأرجح بانتهاء التشييع، باعتبار أنّ الساحة اللبنانية لا تزال مُستباحة، مع استمرار الاحتلال لخمس نقاط وُصِفت بـ"الاستراتيجية"، على الرغم من انسحاب القوات الإسرائيلية قبل أيام، من معظم القرى الحدودية التي تمركزت فيها في الآونة الأخيرة.

ولعلّ ما قد يكون "أخطر" من استمرار الاحتلال الإسرائيلي لنقاط وتلال لبنانية، على خطورته، وبمعزل عن "استراتيجية" هذه النقاط وأهميتها الفعليّة، يكمن في تمسّك إسرائيل بما تسمّيها "حرية الحركة" على امتداد الأراضي اللبنانية، وهو مبدأ أصرّ عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم أعلن عن موافقة حكومته على اتفاق وقف إطلاق النار، مع أنّ أيّ بند بهذا المعنى لم يَرِد في متن الاتفاق الموقَّع، بعيدًا عمّا أثير عن تفاهمات "جانبية" أبرِمت.

وقد تجلّت "حرية الحركة" هذه خلال الأيام الأخيرة، قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي غير المكتمل من الأراضي اللبنانية، بدءًا من خرق جدار الصوت فوق العاصمة بيروت قبل أسبوع، وصولاً إلى استمرار الغارات والاغتيالات الإسرائيلية، فكيف يمكن للبنان أن يتعاطى مع كلّ ذلك، رسميًا وشعبيًا وحزبيًا، وهل يكتفي برفع الصوت ضدّ هذه الانتهاكات، وهو ما بدأه عمليًا، وهل يبقى "حزب الله" متفرّجًا إزاء ذلك، ممسكًا بمعادلة "الدولة ثمّ الدولة ثمّ الدولة"؟!.

حتى الآن، توحي كلّ المعطيات السياسية المتوافرة بأنّ "الأولوية" تبقى للدبلوماسية في معالجة الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية المتمادية، وهو مسارٌ بدأ منذ اليوم الأول لانتهاء مهلة الانسحاب الإسرائيلي في 18 شباط، من خلال الاجتماع الذي عقد في قصر بعبدا، بين رؤساء الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام ومجلس النواب نبيه بري، وخلص إلى موقف واضح باعتبار أيّ وجود إسرائيلي في أيّ شبر من الأراضي اللبنانية، "احتلالاً".

ويشير العارفون إلى أنّ هذا الموقف "الوطني" الذي تعمّد لقاء بعبدا التعبير عنه، للتأكيد على "وحدة المقاربة" بين مختلف الأطراف والمكوّنات اللبنانية، وهو ما ينسجم بالمناسبة مع الثوابت التي وردت في البيان الوزاري للحكومة الوليدة، وإن خلا من مصطلح "المقاومة"، إضافة إلى خطاب القسم، اقترن بـ"خريطة طريق" واضحة، قوامها التوجّه إلى مجلس الأمن الذي أقرّ القرار 1701، لمطالبته بالضغط على إسرائيل لإلزامها بالانسحاب الفوري.

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ موقف الدولة اللبنانية واضح لجهة تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته في وقف التعدّيات الإسرائيلية، ولا سيما الدول التي يفترض أن تكون راعية وضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرِم في 27 تشرين الأول الماضي، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، وقد نصّ الاتفاق صراحةً على ضرورة إنجاز الانسحاب الإسرائيلي خلال 60 يومًا من موعد دخوله حيّز التنفيذ، قبل أن تمدّد هذه المهلة حتى 18 شباط.

وفي حين يفترض أن يستكمل هذا المسار، بحراكٍ تقوده وزارة الخارجية في الأيام القليلة المقبلة، بعد الاتفاق على الآلية والإجراءات، من أجل الضغط على المؤسسات المعنيّة، فإنّ أهمية ما خلص إليه اجتماع بعبدا وفقًا للعارفين، يكمن في الرسالة "الضمنية" التي يحملها، حين يتحدّث صراحة عن "احتلال" للأراضي اللبنانية، ولا سيما أنّ القاصي والداني يدرك ما تشرّعه الأمم المتحدة من سبل ووسائل لمواجهة أي احتلال وما يترتب عليه.

ولأنّ "الاحتلال" يعني في مكانٍ ما "تشريع" مبدأ المقاومة، تُطرَح علامات استفهام حول الموقف الذي يمكن أن يأخذه "حزب الله"، فهل يبقى "متفرّجًا"، ملتزمًا بخيارات الدولة واستراتيجياتها، عملاً بالبيان الوزاري للحكومة التي يفترض أنّه جزءٌ منها، ولو بصورة غير مباشرة، وقد حصرت قرار الحرب والسلم بالدولة إن جاز التعبير، أم يعيد الاعتبار لموقعه في المعادلة، وربما يستعيد "مشهدية" ما قبل العام 2000، التي صنعت "مجده"؟!.

حتى الآن، لا تزال الإجابات على مثل هذه الأسئلة "مبهمة"، لاعتبارات عدّة، من بينها أنّ اهتمام الحزب منصبّ في المرحلة الحالية على إنجاح "حدث" تشييع أمينيه العامين السابقين السيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، وبالتالي فإنّ أيّ نقاش يبقى مؤجَّلاً لما بعد يوم الأحد، علمًا أنّ الكثير من المحسوبين على الحزب بأنّ "ما بعد التشييع" لا يمكن أن يكون "كما قبله"، بالنظر إلى الرسائل التي يفترض أن يحملها الحدث في الشكل كما في المضمون.

أما ما بعد التشييع، فيقول العارفون إنّ كلّ السيناريوهات والاحتمالات تبقى مفتوحة، وإن كانت الأرجحيّة حتى الآن، أن يواصل الحزب تكتيك "الركون إلى الدولة"، التي تقع على عاتقها مسؤولية إلزام إسرائيل بالانسحاب، ووقف الانتهاكات والخروقات، وهو ما تعزّزه وجهة النظر القائلة بأنّ الحزب ليس مستعدًا في الوقت الحالي للعودة إلى القتال، وهو لو كان جاهزًا، لما انتظر إلى اليوم، فيما كانت الخروقات الإسرائيلية يومية لأكثر من شهرين.

إلا أنّ المشكلة التي يصطدم بها هذا المنطق، تكمن في أنّ الإصرار الإسرائيلي على البقاء في الأراضي اللبنانية، وقد أصبح واضحًا أنّ أسبابه معنوية أكثر منها استراتيجية، من أجل "طمأنة" المستوطنين، ودفعهم للعودة إلى منازلهم، وبالتالي عجز الوسائل الدبلوماسية عن تحقيق الانسحاب، سيضع الحزب في موقف محرج أمام جمهوره وبيئته الحاضنة في المقام الأول، فكيف يمكن أن يقبل في العام 2025 بما رفضه قبل العام 2000 مثلاً؟.

إلى ذلك، يلفت العارفون إلى مشكلة أخرى قد يتسبّب بها مثل هذا العجز، وقوامها أنّ استمرار الاحتلال، وعجز الدبلوماسية عن التصدّي له، وتقاعس "حزب الله" إن حصل، قد يدفع كثيرين إلى "مبادرات ذاتية" في مكانٍ ما، باعتبار أنّ المقاومة تصبح "مشروعة"، وهو ما يخشى كثيرون أن يصبح أمرًا واقعًا، إما بمباركة "حزب الله" في مكانٍ ما، بحيث لا يظهر في الواجهة، أو حتى من دونها، بالنظر إلى مؤشرات "فقدانه السيطرة" على جمهوره.

حتى الآن، تبقى الكثير من الأسئلة حول سيناريوهات المرحلة المقبلة بلا أجوبة حاسمة، حتى لو صحّ أنّ "حزب الله" المنهمك بالتحضير لمأتم "تاريخي" لقادته، ليس جاهزًا لخوض حرب أخرى، وهو لم يكمل بعد المراجعات المطلوبة ما بعد حربه الأخيرة. ولعلّ الطريقة الوحيدة لتفادي كلّ الإشكالات، تكمن في ممارسة الدول المعنيّة، الضغط اللازم على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب، اليوم قبل الغد، أو بالحدّ الأدنى، قبل فوات الأوان!.