بعد انتظار وترقب أطل السيد حسن نصرالله على من افتقدوا حضوره لكن المفاجأة كانت بكلمة الأمين العام الجديد لحزب الله التي كسرت كل هيبة وحضور.
حقيقة واحدة جمعت الذين خاصموه والذين أحبوه معاً وهي أن حضور نصرالله في نعشه كان طاغياً على حضور من اعتلوا المنابر لرثائه. حتى في مماته بقي حضوره طاغياً وبقيت هيبته حاضرة في هتافات الآلاف الذين غصّوا في تكرار أي هتاف لا يحمل اسمه.
رحيل نصرالله كان بحد ذاته النكسة الأكبر، لكن واحدة من أكبر نكسات حزب الله الأخيرة هي الفراغ الذي يعيشه عقله القيادي الجديد وهذا هو الفراغ الذي تركه غياب نصرالله.
عندما اغتالته اسرائيل كانت تعلم انها إغتالت كل حزب الله. ليس فقط لشخص نصرالله إنما لموقعه ومكانته والحيثية التي يتمتع بها.
هو شخص استثنائي بشهادة الخصوم قبل المقربين. هو صانع اللحظات الإستثنائية مثل لحظة: "انظروا اليها تحترق" التي لن تمحى لا من الذاكرة ولا من التاريخ. هو مضخة المعنويات ومنسوب الكرامة المرتفع، هو الشخصية الذكيّة التي تجذب الناس بقوتها ومنطقها والكاريزما العالية التي يتمتع بها.
من الصعب جداً أن يملأ أي شخص مكان شخصية استثنائيّة من هذا الحجم وهذا منطقي ومعروف وقد أثبتته التجربة الحالية.
فحين كان الأمين العام الجديد يلقي خطابه لم نسمع سوى هتاف واحد في معرض هذا الخطاب ولو لم يتلفظ نعيم قاسم بالعبارة الشهيرة "هيهات منا الذلة" لما سمعنا أي هتاف.
واضح أنه يصعب على جمهور حزب الله أن يتلفّظ باسم آخر بعد نصرالله ويصعب على الحزب أن يتقبل أي شخص أخر مكان نصرالله. فللمنابر ناسها وقد أثبت خطاب التشييع أن المنبر اليوم فارغ! لا يتفاعل معه الجمهور إلا عند ذكر أسم نصرالله.
لو حضر الشيخ نعيم هذا التشييع بالجسد لكان رفع التحدّي بوجه اسرائيل بدل أن يلقي خطاباً غير موفق عبر الشاشات.
ولو اقتصر الخطاب على وداع السيد نصرالله كان أجدى وأرقى في مناسبة كهذه من إطلاق مواقف سياسية متناقضة لم يفهم منها أي موقف.
أصرّ الأمين العام الجديد على الإستمرار بالمقاومة وفي الوقت نفسه أشاد بدور الجيش، أصرّ على شكر ايران وقادتها وفي الوقت نفسه طالب الدولة اللبنانية بإعادة الإعمار، أصر على تسويق نظرية الإنتصار وفي الوقت نفسه هو يقف في جنازة رأس الحزب المنتصر بنظره، والأهم أصر على صوابية حرب الإسناد بينما اضطرّ حزب الله إلى التخلّي عن الإسناد لوقف إطلاق النار.
اعتبر أن اتفاق وقف إطلاق النار كان حاجة لإسرائيل بينما كان شعبه ينزح مشرداً وأملاكه تُباد وقراه تحترق.
إن الإعتراف المتأخر بالدولة واللجوء إلى كنفها لإعادة الإعمار، وبالرغم من أنه يستفزّ البعض، إلا أنه نقطة انطلاق يمكن أن يُبنى عليها للمستقبل.
وإذا صدق الشيخ نعيم قاسم بهذه الدعوة وهذا الطرح فهي ترتب عليه التالي:
إن الاعتراف بالدولة لا يتجزأ. فالدولة التي تبني هي التي تحمي ولا شريك لها على الإطلاق.
الدولة التي ستعيد البناء لن تبني أنفاقاً ولا مواصلات تحت الأرض، بل ستبني مساكن آمنة لأبنائها وستوفر لهم مقومات العيش في أرضهم بكرامة.
الدولة التي تبني تتحمل مسؤولية حماية أبنائها وصون أمنهم وتحصين سلامتهم وبالتالي تكون الوحيدة التي تحمل السلاح على أرضها ولا ترضى بأي استثناء.
الدولة هي المرجع الأول والأخير لكل أبنائها ولا مراجع أخرى لهم لا من دول ولا من أفراد.
الدولة هي الراعي والحامي الوحيد. هي الوطن الذي يجمع تحت سقف العدالة والمساواة.
هذا هو معنى مناشدة الدولة وهذه هي واجباتها. لذا فعلاً عليها المبادرة لملاقاة هذه الدعوة لكن بهذه الشروط وليس بأي دافع آخر.
أما شكر ايران التي أتّمت البيعة الكبرى وسلّمت واستسلمت، هو طبعاً أمر مستفز آخر.
فمن يؤمن بالدولة اللبنانيّة ويطالبها بإعادة الإعمار لا يبادر بشكر دولة أخرى ولا يبايع دولة أخرى ثم يتوجه إلى الدولة اللبنانية. هذا يثبت أنّ الإندفاع الظرفي نحو الدولة اللبنانية إنما هو مجرد غطاء للبقاء على النهج السابق.
من يؤمن بالدولة اللبنانيّة عليه أن يطالب ايران بالتعامل معها كدولة وعليه أن ينأى بنفسه عن الإنزلاق نحو الجنوح الذي عاشه سابقاً وكانت عواقبه وخيمة عليه وعلى لبنان وشعبه.
لو كان هذا المنبر اليوم لمن وُضع في النعش لكان اعترف أمام من وثقوا به بكل صدق أن ما جرى ليس انتصاراً ولو لم يسمّه هزيمة، على الأقل كان قادهم لتجاوز النكسة الكبرى والأهم أنه كان صارحهم بالحقيقة.
حتى لو خسر نصرالله الحرب كان وقف أمام جمهوره وحزبه بكل شجاعة، واجه الموقف وأجرى عملية نقد ذاتي، كان أعاد لهم المعنويات للمواجهة من جديد. الحياة جولات والحرب طويلة، وليس عيباً أن نخسر بعض جولاتها، بل العيب أن نستمر في وهم فائض القوة ثم نقع ونوحي للآخرين أننا لم نتأثر فيما هم يشاهدوننا نهوي.
إن هذا النكران الحاصل اليوم هو جزء من تبعات عملية الإغتيال. بعد الإغتيال الجسدي تطلق القيادة الجديدة لحزب الله عملية الإغتيال المعنوي من خلال المكابرة وعدم الإعتراف بالخسارة فيما هي تناشد الدولة لإعادة الإعمار.
إن هذا السيناريو يمكن أن يكون مبرّراً في حالة واحدة وهي أن يكون السيناريو المشرّف، أي المخرج، الذي وجدته هذه القيادة للإنتقال إلى المرحلة المقبلة.
وفي هذه الحالة على الشركاء في الوطن أن يستوعبوا هذا الموقف وأن يعتبروه السيناريو المشرّف الأفضل للخروج من الخسارة ولو بربح وهمي، وبالتالي يسمحون بتسويقه على أن يكون ذلك تأسيساً لمرحلة جديدة شرط ألاّ يعيشه الطرف الآخر على أنه حقيقة.
الواضح حتى الآن أن الذي يسوّق الإنتصار هو نفسه لا يصدقه ولا يتصرّف وفق ما يقول، والواضح أيضاً أن الأطراف الآخرين لا يتعاملون معه على أنه منتصر بل لا يفوتون فرصةً لتحميله مسؤولية خيار المساندة.
إن قرار حرب الإسناد كان القرار الأسوأ منذ العام ٢٠٠٦، وكان الفرصة التي طالما انتظرتها اسرائيل للإنتقام. وما يمر به حزب الله اليوم يجب أن يشكّل الفرصة لمرحلة انتقاليّة نحو أداء سياسي جديد يستثمر فيه مقاومته السابقة والتضحيات ليبني خيارات جديدة تكون فعلاً تحت سقف الدولة. عليه أن يتّعظ من انتماءاته الخارجية ويدرك أنّ خيار الإحتماء بكنف دولة أخرى يجرّده من مطلبه بالإنتماء للبنان.
بعد التشييع وبعد الوداع والحداد والرثاء وبعد غياب من صدح صوته بما بعد بعد حيفا، ماذا بقي ما بعد بعد الفراغ في قيادة حزب الله؟!.