صدر كتاب جديد للأب مارون الحايك "بين مجد... ومجد" قصص. زين الغلاف لوحة بريشة المؤلّف.
مجد ومجد وبينهما عناء وتعب ونضال وشجاعة وصبر وإيمان وسهر وعلم... وزد عليها من القيم والصفات التي تتطلب مثابرة في بذل الذات، وهذا غيض من فيض، فيما يقال في مجديّ الأب مارون الحايك، وهو الراهب والباحث والشاعر والمؤرخ والأديب، هذا ما تستشفه في مطالعة مؤلّفه الجديد بقصصه الطويلة والقصيرة، كلّها ذات طابع تاريخيّ. تقترب قصة "في القصر!" من الرواية بشخصياتها وأحداثها وحبكتها، وهي قصة تاريخيّة تروي حياة الأب أنطون شراباتي الأنطونيّ، مرشدًا للأمير حيدر أحمد الشهابيّ، مدة ثلاث سنوات، من ثمّ مرشدًا للأمير بشير الشهابيّ الثاني، بعدما ذائع صيت روحانيّته، إذًا أصبح خادمًا روحيًا في قصر بيت الدين من عام ١٨٣١-١٨٤٠. لقد دون يومياته ومذكّراته "في القصر!" متشبعة القصة في مفاصلها الأساس بالعناصر الإيمانيّة والروحيّة والوطنيّة والحياتية والاجتماعيّة والعاطفيّة، بما تحمل من عبر للحياة وفي الحياة. جرت أحداثها في أوائل القرن التاسع عشر، إلّا أن المؤلّف جعلها تخرج من مخطوطها، وتستعيد الحياة على يد رئيس الدير وشاب يبحث عن جذور عائلته وأقربائه في القرن العشرين.
لقد أبدع الأب الحايك في توليف التاريخيّ مع الحاضر، لكي يكونا إشعاعًا للمستقبل. فعلى الرّغم من حفاظ المؤلّف على جوهر سرديات القصص ذات طابع تاريخيّ، وتراكمات المرويات على هذه الأحداث منها "بعد هدم الدير!" و"في مرحاتا!" و"أصوات الجن!" و"أيقونة الكاتدرائيّة!" إلّا أنّه وضعها كلّها في إطار راهن، فتتلقى من متلقٍ كما هي الحياة. كذلك "ألدو وميدو!" و"مصير واحد!" و"مجهول المصير!".
أصف قصص الأب الحايك برائعة نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" كلهما ذات طابع رمزيّ وتعليميّ اجتماعيّ "لكن الناس تحمَّلوا البغي في جَلَد، ولاذوا بالصبر، واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضرَّ بهم العسف قالوا: لا بُدَّ للظلم من آخِر، ولليل من نهار، ولنرينَّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب". هذا باختصار ما بين دفتي "بين مجدٍ.. ومجد" وهي حالات من التدين الطبيعيّ الذي يتعاطف معه الإنسان من خلال مقايسه الأخلاقيّة.
بعد ما كتب الأب مارون الحايك في معظم ميادين الأدب، يطلّ في مؤلّفه الجديد الروائي بائحًا بخلفية كواليسه الفكريّة، إن كانت من مخطوطات أو مرويّة على مسمعه، أو ما قرأه من الصحف في زمانه الراهن. فأبطال قصصه واقعيّة واقع الحياة، هذا من دون إخفاء شخصيته الثقافيّة فلسفيًا ولاهوتيًا.
فإن كانت أولى قصص هذا الكتاب قد دارت أحداثها في أوائل القرن التاسع عشر، فإن أخر قصص هذا الكتاب قد دارت في أوائل القرن الحادي والعشرين. كأنّي في كتاب واحد يختصر قرنًا من الزمان بما يعيشه الإنسان من قيم أخلاقيّة مختلفة ومتفلّتة.
تجد في مخيط هذه القصص تأثر الحايك بفيلسوف التنوير إيمانويل كانط من ناحية الأخلاق التي يعتبر أنّها بمنزلة أوامر مطلقة وكونيّة غير مشروطة. فالحايك في زمن التفاعل الافتراضي، يدعو القارئ لدخول في حوارات أبطاله وإبداء الرأي في إشكاليات طروحاتهم.
إلّا أنّه يجب على المتلقي أن لا يقع في فخ أخلاقيّات نيتشه الوضعيّة التي تميّز ما بين أخلاقيّة الأسياد وأخلاقيات العبيد. ويرى الحايك كما نيتشه أن القيم أو الأخلاق هي أصعب ما يمكن للمرء أو المجتمع تغييرها لأنّها قوية الركيزة عميقة الجذور، وهي أكثر العوامل تأثيرًا في سلوك البشر، وتحتاج إلى فترات زمنية كبيرة حتى تترسخ، ومن ثم صعوبة اقتلاعها.
إن نجادة الأب مارون الحايك وجسارته، في ابراز أمجاد الإنسان من إخفاقاته، إلّا أنّ هذه خلفية الكتاب، لتبقى دعوة لإعادة تقويم قيمنا الأخلاقيّة الوضعيّة ولرفع الغبار عن الفضائل الإلهيّة.
إنّ قصص الآخرين تتشابه مع قصصنا وتتباعد. لتبقى الحكمة التي نستشفها من هذا الكتاب، أن من وهن الحياة نكتب مجدًا وخلودًا...