يدخل المسيحيّون بكافة مذاهبهم رحلة الصّوم الأربعيني المقدّس ابتداءً من الإثنين المقبل، فيما يبدأ الأخوة في الطوائف الإسلامية اليوم صوم رمضان المبارك. يا لها من مصادفة مباركة، حيث من المفترض، أن ينطلق الشعب اللبناني بكل طوائفه ومذاهبه في زمنٍ مفعم بالخير والبركة والعطاء والتسامح، زمنٍ يتجلّى فيه السعي إلى الله بالصلاة والتواضع وأعمال الرّحمة.
إذا أذن لي القارئ أن أتعمّق في هذه المصادفة، فلا بد من القول إن الله يريدنا جميعًا مجاهدين في درب التوبة والاستغفار، سائرين في مسيرة السلام والوئام، حاملين في قلوبنا روح التسامح والغفران والعطاء. هذه المصادفة دعوة لكل لبناني ليدرك كم أخطأ في حق وطنه وأخيه في المواطنة، فالله ينادينا إلى توبة صادقة تفضي إلى خلاصنا وخلاص وطننا. وعلى هذا الرجاء نرفع الدعاء.
عرفت المسيحية الصوم منذ فجرها الأول، فتطور مع الزمن ليصبح كما نعيشه اليوم: انقطاعًا عن الزفرين، وعبادةً جماعية، وعطاءً غير محدود، وتوبةً نصوحًا، وصراعًا مع الخطيئة في معترك الجهاد الروحيّ، حتى نظفر بالنصر على العدوّ المتربّص بنا شرًا. أما السيد المسيح، فقد أبرز أهمية إخفاء الصوم، إذ هو علاقة حبّ خفية بين الإنسان والله، حيث يقدّم الصائم شيئًا لله في صمت ووقار. لذا، طلب أن يكون المرء في مظهره طبيعيًا، غير عابس، بل بوجهٍ مغسول وشعرٍ مدهون، كما ورد في إنجيل متى: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ" (متى 6: 17). ففي ذلك إشارة روحية إلى النقاء من الخطيئة بالتوبة، والفرح بمرافقة الله في هذا الزمن المقدس.
هذا الصّوم الأربعيني، باستثناء الأسبوع العظيم المقدّس، هو زمنُ تهيئةٍ لعيد القيامة، حيث تتجدد أرواح المؤمنين بالتوبة، لتكون حاضرةً كما الجسد والعقل في بهجة الفصح المجيد. الصوم المقبول عند الله يتمثّل في أعمال الرَّحمة، ففي إنجيل الدينونة يدعونا المسيح إلى إطعام الجياع، وإرواء العطاش، وكسوة العريان، وزيارة المرضى والمساجين، وإيواء الغرباء، إذ يقول: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ" (متى 25: 40). وهكذا، فإن جوهر الصوم المسيحي هو العطاء والتوبة، وكم نحن بحاجةٍ في هذا الوطن إلى عطاء مغبوط يُتيح للفقراء والمحتاجين والمشرّدين والأرامل والأيتام أن ينعموا بنفحات الخير التي أغدقها الله على الميسورين.
ما أبرك موائد المحبة التي يُقيمها المسيحيون في رعاياهم ومؤسساتهم الخيرية، تجربةٌ باتت متجذّرةً على مدار السنة في أكثر من كنيسة ومؤسسة خيريّة، حيث يتجلّى وجه الله الحقيقي، ذاك الذي يدعونا إلى العطاء دون مَنٍّ أو رياء، بل بروح المحبة الخالصة. ألم يقل المسيح في الإنجيل: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ" (متى 6: 3).
الصوم خبرةٌ روحيّةٌ عميقة، تقرّب المؤمن من الله، لكن ما جدواه إن صمنا ولم نصلِّ؟ إنه عندئذٍ كطائر بجناحٍ واحدٍ لا يستطيع التحليق. لذا، أدعو كل صائم إلى الابتعاد عن اللهو، والتفرّغ للصلوات الفردية والجماعية. بل وأكثر من ذلك، نحن مدعوون إلى صيامٍ عن وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة، وصيام اللسان عن اللغو، لنغذّي أرواحنا بقراءة الإنجيل والانضمام إلى الأحاديث الروحيّة، فتغدو مسيرة الصوم معراجًا نحو فرح القيامة. ألا بارك الله صيام المؤمنين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وهدانا جميعًا إلى دروب الرّحمة والمغفرة، وأبعدنا عن الشرّ، وألهمنا عمل الخير لوطننا ومجتمعاتنا. آمين.