التاريخُ وَعيٌ، قَبلَ أن يَكونَ ماضٍ. فيهِ سَبَبِيَّاتٌ تَتَوالَدُ، تَتَوالى وَتَتَدافَعُ. وَلَيسَ في أحداثِهِ إستِحالَةُ غَيرُ المُمكِنِ.

وَلا وَعيَ إلَّا خَلقاً، والخَلقُ في التاريخِ يَكتُبُهُ المَغلوبونَ. أولَئِكَ الذينَ يَعتَبِرونَ أنفُسَهُمُ غَلَبوا بالقَسرِ، بالوَحشِيَّةِ، لا يَتَجاسَرونَ إلَّا على... ذَواتِهِمِ. أما قيلَ أنَّ التاريخَ، بِمَساراتِهِ الزَمانِيَّةِ والمَكانِيَّةِ المُتَكامِلَةِ، لا يَرحَم؟ أجَل! هو لا يَرحَم النَكِراتِ. الماضِويَّاتِ تَشُدُّ الى الوَراءِ وَتَنحَبِسُ فيهِ. وَعيُ التاريخِ هوِيَّةُ الذاكِرَةِ وَتَوَثُّبُ الضَميرِ الفاعِلِ، إذ لا مُستَتِرَ في الضَميرِ.

قُلتُ التاريخُ مَساراتٌ؟ ألَهُ مِن نِهايَةٍ؟ مُذ سَنخوني أتُنُ البَيروتِيُّ أبُ التاريخِ الكِونِيِّ، الأساسُهُ لبنانُ، والتاريخُ تَواصُلٌ... حَتَّى تأبُّدِ كَينونَةِ الإنسانِ. وأكثَرُ، هو التاريخُ أرادَهُ إبنُ بَيروتَ قيمَةً لِلحَياةِ، وَحِصنَها الَّلايَغشاهُ كُسوفٌ في الوجودِ. وَجاءَ قُدسُ المَناراتِ المَشرِقِيَّةِ البَطرِيَركُ العَلَّامَةُ مار إسطِفانوسَ الدوَيهيِّ لِيُحَدِّدَ مُنطَلَقَ التَواريخِ... في الأُلوهَةِ، أيّ أبعَدَ أبعَدَ مِنَ الإنسانِ.

إبنُ بَيروتَ جَعَلَ الأُلوهَةَ مؤَسِّسَةَ حاضِراتِ لبنانَ على الخَيرِ، والإهدِنِيُّ القِدِّيسُ جَعَلَ مِن تُرابِ إهدِنَ ذاتِها جَنَّةَ الخالِدِ، ألمِنها إنطَلَقَ اللهُ وآدَمُ-الإنسانُ-الأوَّلُ وَلبنانُ... لإعلاءِ تاريخٍ مُشتَرَكٍ، تاريخِ الحَياةِ الموغِلَةِ، بَينَ العِنايَةِ والحُبِّ والإلتِزامِ، في عَلاقاتِ الأفرادِ، بَني آدَمَ، وَشُعوبِهِمِ وأُمَمِهِمِ المُنبَثِقَةِ مِن فَرادَتِهِ.

لَكِنَّ الخَطَّ المُنطَلِقَ مِن هيرودوتَ الى فوكوياما مُروراً بالطَبَرِيِّ وَرَعيلِهِ إستَلَذَّ التَواريخَ، وَإن مِن تُرابِيَّةِ تَسَلسُلٍ شُعلَتُهُ الإنسانُ، تَراتُبِيَّاتِ غَلَبَةٍ مِن ساحِقٍ على مَسحوقٍ. تَراتُبيَّاتُ نُظُمٍ وأنظِمَةٍ إستِبدادِيَّةٍ مُتَبائِدَةٍ. أظلَمُها يَقضي على مَن سَبَقَها، بِتَفَوُّقِ إباداتٍ، وإلغاءِ حُدودٍ بِقَضمِها أو نَفيها، وَتَدنيسِ قِيَمٍ بِدَحرِها أو مَحوِها، وَمَحوِ شُعوبٍ وإستِبدالِها إذا ما أبَت طَواغيتَ الإستِسلامِ. وَعِندَ التَعادُلِ أو شَبَهِهِ، يَتَعالى تَفَوُّقُها الدَمَوِيُّ لا بِتَصارُعٍ مُباشَرٍ بَل بِالواسِطَةِ على إمتِدادِ العالَمِ، شَرقُهُ وَغَربُهُ، شَمالُهُ وَجَنوبُهُ.

قياصِرةٌ وإيديولوجِيَّاتٌ تَكونُ أو لا تَكونُ، إسلِحَةٌ وآلامُ، والعالَمُ... مُعَسكَراتٌ وَدَمارٌ.

نِهايَةُ التاريخِ بالإستِبدادِ، حَيثُ لا الأُلوهَةُ، وَلا الإنسانُ، لا الشُعوبُ وَلا الأُمَمُ، قِيَمٌ لِحِصنِ الحَياةِ.

قَضاءُ المُثابَرَةِ

مِن لبنانَ-البَطرِيَركِ-الدوَيهيِّ الى لبنانَ-سَنخوني-أتُنَ، التاريخُ مُثابَرَةُ قَضاءٍ. تَمَسُّكٌ بِفَرادَةٍ، مِنها هَزيمَةُ مَن إبتَغى التاريخَ ديالِكتِيَّةَ الصِراعِ بَينَ مَشيئَةِ الأُلوهَةِ لِلإنسانِ وَإرادَةِ الإنسانِ لِذاتِهِ وَللهِ.

وَمِن لبنانَ-سَنخوني-أتُنَ الى لبنانَ-البَطرِيَركِ-الدوَيهيِّ، التاريخُ قَضاءُ المُثابَرَةِ، إنتِصارُ نِطاقِ الوجودِ الإنسانِيِّ بِأكمَلِهِ في سِرِّ الخَلقِ الإلَهيِّ.

قُلّ: هو لبنانُ-الَّلا-لِنِهايَةِ-التاريخِ، بَل حُرِيَّةُ خَيرِهِ الأبَدِيَّةِ: النِداءُ والجَوابُ، الميزَةُ والوجوبُ. الطَبيعَةُ وَما فَوقَها.

أهوَ وَحدَهُ الحُرُّ مِثلَ الأُلوهَةِ التي مِنها إنبَثَقَ؟ بَل وَهوَ الضامِنُ أن بالحُرِيَّةِ يَكونُ تاريخُ الأفرادِ والشُعوبِ والأُمَمِ على مِثالِ الأُلوهَةِ. والحُرِيَّةُ لَيسَت إلَّا أصالَةَ إختيارِ الخَيرِ، وَدَوسِ الشَرّ،ِ مُرادِفِ كُلِّ إستِبدادٍ.

ها هي روما، وَقَبلَها بِلادُ فارِسَ وَ...، وَبَعدَها الى دَولَةِ المَماليكِ وَسَلاطينِ بَني عُثمانَ فَ...وَهمُ مَملَكَةِ فَيصلَ، بِأربابِ سُيوفِهِمِ وَغَزواتِهِمِ وَتَقسيماتِهِمِ. كُلُّهُمُ، إلتَزَموا الإستِبدادَ بِداياتِ دَيمومَةٍ لِتَواريخِهِمِ، وَنِهايَةَ تاريخِ مَغلوبيهِمِ. فإقتَطَعوا زَمانِيَّاتِ لبنانَ وَمَكانِيَّاتِهِ وَأغرَقوا بَنيهِ بِقَبائِلَ مِنهُم وَلَهُم... فأينَهُمُ؟

هو لبنانُ، الحَكَمُ الغالِبُ باللامُتناهي. النابِعُ مِنَ الإشتِراكِ في حَياةِ الإنسانِ، كُلِّ آدَمَ وَكُلِّ الآدَمَ. وَفي حَياةِ كُلِّ اللهِ.

قُوَّةُ لبنانَ، الإنبِثاقُهُ في الأُلوهَةِ لِلإنسانِ، أنَّهُ قَضاءُ المُثابَرَةِ الرَهيبِ، أيّ الحَدَثُ الأكثَرُ حَسماً لِتَواصُلِ تاريخِ الإنسانِ واللهِ وَلَهُما. فَلَولاهُ لَبَقِيَت حَقيقَةُ التاريخِ مُعَلَّقَةً في فَراغِ النِهايَةِ. في جِدارِ الطُغيانِ.