لم يكن احد يحتاج الى الكثير من الوقت ليدرك ويلمس لمس اليد ان الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب سيغيّر العالم، ليس بالضرورة الى الافضل، ولكنه سيقلب المفاهيم وينسف التقاليد ويخطّ نهجاً جديداً باعتباره "سيد العالم". ما حصل مع الرئيس الاوكراني فولودومير زيلنسكي في البيت الابيض منذ ايام، لا يترك للشك مكان، ويؤكد بقوة ان ساكن البيت الابيض يشكل خطرا ًعلى الجميع من دون استثناء. بغض النظر عن موقفنا من زيلنسكي، أكان مؤيداً ام معارضاً لما يقوم به، لم يكن معهوداً خرق البروتوكول العالمي بهذا الشكل، فالمتعارف عليه ان الحديث بين رؤساء الدول او الوفود الرسمية يكون سرياً ويتم الاكتفاء بالتسريبات، التي يمكن بعدها تأكيد او نفي مضمونها من دون وجود ادلّة او وثائق لعدم احراج احد. ولكن ما حصل في المكتب البيضاوي، نسف كل هذه المفاهيم، وسمح ترامب للاعلام بتصوير مضمون الاحاديث التي دارت بين ترامب ونائبه "جاي دي فانس" والرئيس الاوكراني، مع كل ما تضمنه من انتقادات ورفع نبرة الصوت وحدّية في الكلام.
وما ظهر من خلال هذه الحادثة التي باتت على كل شفة ولسان، هو انه لا يجب الاستهانة بنائب الرئيس الاميركي، الذي، وفق ما ظهر في الفيديوهات، كان الذي اشعل فتيل النقاش الحاد، اذ كان ترامب هادئاً الى حدّ ما، وكان الحديث يدور بين زيلنسكي وفانس الذي عمد الى "استفزاز" زيلنسكي والتعاطي معه بطريقة عدائيّة، ليتدخل بعدها ترامب ويدلي بدلوه، ويحاصر ضيفه الاوكراني قبل ن يدعوه الى المغادرة.
الامر الثاني الذي لفت الانتباه، هو ان ترامب اساء بشدّة الى سلفه، كاسراً بذلك بورتوكولاً آخر، وهو تحدث عنه بالسوء وبتعابير تذمّ بجو بايدن بطريقة كان يمكن تفاديها، وكان بامكان ترامب انتقاد سلفه وسياسته من دون التعرض له بالشخصي، وهو امر مستهجن الى حد ما.
اما الامر الثالث فكان بديهياً، ويتمثل في ان الرئيس الاميركي الحالي يفضّل التقارب مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، على البقاء على مسار واحد مع حلفائه الاوروبيين، وكان مستغرباً جداً ما صدر عن فانس خلال مؤتمر قمة الامن في ميونيخ منذ اسابيع والذي جعل رئيس المؤتمر يبكي بسبب التباعد الكبير بين الادارة الاميركيّة والقارة العجوز، على اثر الكلمة التي القاها نائب الرئيس الاميركي. والسؤال يبقى انه اذا كان ترامب على استعداد للتعامل مع الحلفاء بهذه الطريقة، فكيف سيتعاطى مع الاعداء؟ وكيف سيثق الاوروبيون بأنّ العلاقة مع الولايات المتحدة ستبقى منزّهة عن الخلافات، وانه سيتم التعامل مع العقبات التي ستعترض طريقها بأسلوب منطقي وواقعي يحترم تاريخ العلاقات بين الطرفين؟.
كل هذه الاسئلة لن تجد جواباً شافياً لها، لان الشخص المعني بالاجابة عليها، لا يمكن توقع ردود فعله او طريقة تفكيره، او اسلوبه. يعتبر ترامب نفسه انه "سيد العالم"، وانه الذي يسائل ولا يساءل، وانه القاضي القادر على اصدار احكام مبرمة غير قابلة للمراجعة، وهو بدأ في تحويل كلامه الى افعال، وتهديداته الى حقائق، فيما يتحضّر العالم للتكيّف مع منهج جديد لرئيس اكبر دولة في العالم. علينا ان ننسى ما يقوله البروتوكول، وما ينادي به المنطق، وما ينطق به العقل، والبحث عما يمكن ان يتأتى عن المصالح.
لم يقل احد ان الكيمياء بين ترامب وزيلنسكي كانت عالية، بل على العكس، عرف الجميع ان الرئيس الاوكراني وجد نفسه في مأزق بمجرد وصول الرئيس الجمهوري الى السلطة. ولكن في المقابل، لم يتوقع احد ان يمنع الرئيس الاميركي المفاهيم والبروتوكولات من دخول عتبة مكتبه في البيت الابيض، وان يكون نائبه اكثر "جنوناً" منه.
الانقلاب العالمي بدأ، وفانس اشعل الفتيل، والباقي على... ترامب.