صحيح أنّ المنطقة تنفّست الصعداء مع التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وقبله لبنان، وذلك بعد أشهر طويلة كانت حافلة بـ"الجنون" الإسرائيليّ، الذي اتخذ شكل إبادة وتطهير عرقيّ في أكثر من مكان، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ خاتمة الحرب التي أعقبت عملية "طوفان الأقصى"، لا تبدو نهائية، أقلّه حتى الآن، ليس بسبب الخروقات الإسرائيلية شبه اليومية فحسب، ولكن أيضًا التهديدات بالعودة إلى القتال في أيّ لحظة.

ففي قطاع غزة مثلاً، يبدو الاتفاق "مترنّحًا"، إن صحّ التعبير، بل أمام أيام "مصيرية"، على وقع جهود يبذلها الوسطاء لإنقاذه ومنعه من الانهيار، في ضوء مؤشّرات تؤكد عدم وجود نيّة حقيقيّة لدى إسرائيل بالانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، علمًا أنّ التصعيد الإسرائيلي وصل لحدّ وقف إدخال المساعدات إلى القطاع، مع تهديد متجدّد من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالعودة إلى القتال، "إذا شعرنا أن المفاوضات غير فعّالة".

وفي لبنان، لا يبدو الوضع أفضل حالاً، حيث تستمرّ الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار من دون رادع، إذ لم تكتفِ إسرائيل بإبقاء قواتها في خمس نقاط وُصِفت بـ"الاستراتيجية"، خلافًا لما نصّ عليه الاتفاق عن ضرورة انسحابها من كامل الأراضي اللبنانية، الأمر الذي يجعلها "قوات احتلال" بحكم الأمر الواقع، بل تعمد إلى تكريس "حرية الحركة" داخل لبنان، فتضرب وتقصف وتستهدف كيفما تشاء، وأينما تشاء.

وفي سوريا، التي ضمّتها إسرائيل إلى "جبهات القتال" بعد سقوط نظام بشار الأسد، تبرز مخاوف من نوايا إسرائيلية مضمرة، ظهرت من خلال تلويح نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس بالتدخل العسكري في سوريا، تحت شعار "حماية الدروز"، قائلاً: "لقد أصدرنا أوامرنا للجيش بالاستعداد وإرسال تحذير صارم وواضح: إذا أقدم النظام على المساس بالدروز فإننا سنؤذيه"، مع تأكيده في الوقت نفسه، أن الجيش سيبقى في المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ إلى "أجل غير مسمى".

هكذا، يبدو أنّ كلّ الجبهات لا تزال مفتوحة بصورة أو بأخرى، ولم تقفَل عمليًا مع اتفاقات وقف إطلاق النار، التي بقي بعضها "حبرًا على ورق"، أو تحوّل في مكانٍ ما إلى "ذريعة" لإسرائيل لتمارس "حرية الحركة"، مع ضمان عدم حصول أيّ ردّ عليها، فكيف يُفهَم كلّ ذلك، وهل يعني أنّ إسرائيل ماضية بمخططاتها ومشاريعها، مهما كان الثمن؟ وهل يبدو سيناريو عودة الحرب إلى هذه الجبهات واردًا في الوقت الحاليّ؟!.

في سياق محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، يميّز العارفون بين الواقع في قطاع غزة وجنوب لبنان، حيث تمّ التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد حرب استنفدت كلّ الأطراف، والواقع في سوريا، حيث لا تزال صورة المرحلة الجديدة غير واضحة المعالم، ولو أنّهم يشيرون إلى أنّ الجبهات الثلاث تبقى مرشّحة للخروج عن السيطرة في أيّ وقت، بفعل الخروقات الإسرائيلية، وربما الاستفزازات، التي تبدو مفتوحة، بلا أيّ رادع.

فبالنسبة إلى غزة ولبنان، يقول العارفون إنّ الأمور لا تزال "مضبوطة" حتى الآن باتفاقي وقف إطلاق النار، حيث يبذل الوسطاء والرعاة كلّ الجهود المُتاحة من أجل منع انهيارهما، ولو أنّ الأداء الإسرائيلي يوفّر في مكانٍ ما الوصفة المثالية لمثل هذا الانهيار، علمًا أنّ ما يعزّز هذه المخاوف يتمثّل في الدعم المُطلَق الذي يحصل عليه الإسرائيليون من إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي رفع الحظر عن المساعدات العسكرية الضخمة لتل أبيب.

وفي هذا السياق، ثمّة من يخشى أن تكون إسرائيل تُعِدّ العدّة فعلاً لجولة ثانية من حربها على قطاع غزة، وهي تراوغ فقط بانتظار "اكتمال" صفقة التبادل، تفاديًا لبعض "الصداع الداخلي"، علمًا أنّ السلوك الإسرائيلي في الآونة الأخيرة يعزّز هذا الاعتقاد، بدءًا من "تأخير" الإفراج عن الأسرى لعدّة أيام، وصولاً إلى قرار وقف إدخال المساعدات مع بداية شهر رمضان، الذي يشكّل "خرقًا فاضحًا" للاتفاق، بل يفرغه برأي كثيرين من مضمونه عمليًا.

ويعزو كثيرون الأمر إلى أنّ الأهداف الإسرائيلية المُعلَنة من الحرب على غزة لم تتحقّق، وعلى رأسها "القضاء على حركة حماس"، خصوصًا بعدما أظهرت محطات تبادل الأسرى أنّ الحركة لا تزال موجودة ومتماسكة إلى حدّ بعيد، بدليل الاستعراضات العسكرية التي قامت بها، والرسائل النوعية التي وجّهتها، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّها باتت "أضعف" بكثير من السابق، وأنّها لم تعد قادرة على حكم القطاع الفلسطيني بمفردها.

وفي لبنان، ثمّة من يرى أنّ الأمر نفسه لا يزال ساريًا بصورة أو بأخرى، فصحيح أنّ إسرائيل حقّقت ما لم يكن يخطر على بالها في مواجهة "حزب الله"، خصوصًا باغتيال قادة الصف الأول فيه، إلا أنّها لم تقضِ عليه بالمطلَق، كما أنّها لم تستطِع بعد إقناع مستوطنيها بزوال الخطر بالكامل، ولعلّ هذا بالتحديد ما يجعلها تخطّط لإقامة طويلة الأمد في النقاط الخمس، ولو أنّ هناك من يعتبر صمت الحزب، وركونه إلى الدولة، خطوة "غير مسبوقة" في تاريخ الصراع.

إلا أنّ هناك من يخشى أيضًا عدم استمرار هذا الواقع طويلاً، فخطاب الركون إلى الدولة قد يكون "محدودًا" في الزمن والصلاحيات، فإذا لم تنجح السبل الدبلوماسية في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، قد يجد الحزب نفسه مضطرًا إلى المواجهة، بل ثمّة سيناريو يتداوله كثيرون، من إمكانية أن تظهر "مقاومة شعبية"، لا تُحسَب على الحزب بالضرورة، لتتصدّى للاحتلال، مستندة بذلك إلى حقّ المقاومة الذي تشرّعه جميع المواثيق الدولية.

وإذا كان اتفاق وقف إطلاق النار مترنّحًا في غزة ولبنان، فإنّ كلّ الأنظار تتّجه إلى سوريا، حيث تتصاعد المخاوف من مخططات إسرائيلية ظهرت بشائرها تحت خانة التلويح بـ"حماية الدروز"، وهو تلويحٌ لم يُفهَم طبعًا في سياق "الحرص على الأقليات"، وهو حرصٌ لا يستقيم مع طبيعة إسرائيل، بل في سياق "استغلال" الحادث الذي وقع قبل أيام في بلدة جرمانا جنوب سوريا، من أجل توسيع النفوذ الإسرائيلي في هذه المنطقة.

ولعلّ ما عزّز الخشية من "انفجار" جبهة الجنوب السوري، يكمن في أنّها ليست المرّة الأولى التي تستغلّ فيها إسرائيل موضوع الدروز من أجل تنفيذ مخطّطاتها، وقد سبق لأحداث مشابهة أن غيّرت مجرى الأحداث في أكثر من مكان، كما حصل مثلاً بعيد حادثة سقوط الصواريخ على مجدل شمس، التي نفى "حزب الله" تورّطه فيها، لكنّها شكّلت عنوانًا لتوسيع المعركة، وامتدادها إلى الساحة اللبنانية، بعيدًا عن عناوين "إسناد غزة".

وفي حين يقول العارفون إنّه ليس خافيًا على أحد ولا جديدًا أن تعمد إسرائيل إلى استغلال الدروز لتحقيق مصالحها التوسعية، فإنّ السؤال يبقى عن موقف الإدارة السورية الجديدة من كلّ ذلك، وهي التي يتّهمها البعض بإبرام تفاهمات غير معلنة مع إسرائيل، أفضت إلى غضّها النظر عن كلّ تحركاتها، فيما يرى آخرون أنّها تصمت عن هذه الانتهاكات والخروقات، لأنّها تعتبر أنّها ليست جاهزة للحرب، في ظلّ الظروف الحالية، وإن كانت إسرائيل تستغلّ هذا الواقع.

هي إسرائيل إذاً، التي تستغلّ ما يجري في المحيط والخليج، لتحقيق أهدافها ومصالحها التوسعية ومخططاتها الاستيطانية، بذرائع واهية، من نوع "حماية الأقليات"، وهو ما وصفه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط بـ"المكائد الإسرائيلية"، مكائد ينبغي قد لا يكون بالإمكان مواجهتها سوى بموقف عربيّ موحّد وثابت!.