تعمّد رئيس الجمهورية جوزاف عون أن يحطّ في المملكة العربية السعودية، قبل يوم من موعد القمة العربية الطارئة من أجل غزة في القاهرة، ليسجّل "وفاءه" بوعده أن تكون الرياض هي وجهته الخارجية الأولى، بما ينطوي ذلك على "رمزية خاصة"، أراد أن يؤكّد من خلالها على أنّ لبنان "الجديد"، إن صحّ التعبير، يريد أن يفتح صفحة جديدة في العلاقات، والأهمّ، أن يطوي تلك الصفحة التي تسبّبت بانكفاء السعودية عن لبنان لسنوات طويلة.

في الرياض، حظي الرئيس عون باستقبال "ملكيّ"، إن صحّ التعبير، والتقى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حيث عقدا جلسة مباحثات رسمية، استعرضا خلالها العلاقات الثنائية وسبل تطويرها في المجالات كافة، مع التأكيد على أن لبنان "عضو أصيل في المنظومة العربية"، وأنّ "علاقاته العربية هي الضمانة لأمنه واستقراره"، وفق ما جاء في البيان اللبناني السعودي المشترك الذي صدر في ختام المباحثات.

وإلى القاهرة، حمل عون هذا الموقف المنفتح على العرب والمتضامن معهم قلبًا وقالبًا، فكرّره في كلمته التي ألقاها أمام اجتماع القمة العربية، كما في اللقاءات التي عقدها مع معظم القادة العرب على هامشها، حيث كان تشديده على أنّ لبنان عاد إلى شرعيته الميثاقية، وكذلك إلى شرعيته العربية، وأنّ لبنان تعلّم أنّ مصالحه الوجودية هي مع محيطه العربي، بل أنّ دوره في منطقته أن يكون وطن لقاء، لا ساحة صراع.

وإذا كان عون ضمّن كلمته الكثير من الرسائل السياسية المنسجمة مع صورة "العهد الجديد" التي يريد تسويقها، باتجاه العرب وغيرهم، فإنّ الجملة الاختتامية تبقى الأكثر تعبيرًا، وقد توجّه فيها إلى القادة العرب قائلاً: "اليوم يعود لبنان إليكم، وهو ينتظر عودتكم جميعًا إليه غدًا"، ما يفتح الباب أمام المزيد من علامات الاستفهام، فما هو فحوى الرسالة التي حرص عون على توجيهها بين الرياض والقاهرة، وهل حان موعد "العودة العربية"؟!.

في الشكل، تتقدّم زيارة رئيس الجمهورية إلى السعودية، على مشاركته في القمّة العربية، للكثير من الاعتبارات والأسباب، من بينها أنّها الأولى من نوعها منذ سنوات، اهتزّت خلالها العلاقات الثنائية، وتراجعت إلى حدودها الدنيا، فكانت النتيجة انكفاءً سعوديًا خالصًا عن الشأن اللبناني، وهو ما ترتّب عليه "تباعد عربي واسع"، لم تخرج عنه سوى دولة قطر نسبيًا، ربما بما تمتلكه من هامش خاص، جعلها تحافظ على مستوى محدّد من العلاقات.

من هنا، يمكن فهم "إصرار" الرئيس عون منذ انطلاقة عهده، على أن تكون الرياض تحديدًا وجهته الخارجية الأولى كرئيس للجمهورية، علمًا أنّه زارها قبيل انتخابه ولكن بصفته قائدًا للجيش، ولعلّه من خلال هذه الخطوة "الرمزية"، أراد أن يقرن أقواله عن الانطلاقة الجديدة بالأفعال، وبالتالي أن يكرّس ما أعلنه في خطاب القسَم، عن أهمية كسر "العزلة" التي مرّ بها لبنان، من خلال الانفتاح على محيطه العربي بالدرجة الأولى.

وفي هذا السياق، يمكن مقاربة الرسائل التي وجّهها عون قبل الزيارة، سواء بقوله إنّ "لبنان لن يكون منصَّة للهجوم على الدول، ولا سيَّما الدول العربية"، أو إنّ لبنان "تعب من حروب الآخرين على أرضه"، وهو كلام ردّده للمفارقة أمام وفد إيراني زاره أخيرًا، فضلاً عن تصريحاته لصحيفة "الشرق الأوسط" السعوديّة عشيّة الزيارة، والتي قال فيها إنه يسعى إلى "تصويب العلاقات"، وإنّ "لبنان اشتاق إلى السعودية".

وقد حضرت هذه الرسالة، على نطاق أوسع، خلال مشاركة رئيس الجمهورية في القمة العربية في القاهرة، والتي أراد منها ضرب أكثر من عصفور بحجر، فهو أراد أن يؤكّد "عودة" لبنان إلى الجامعة العربية، بما يمثّله موقع رئاسة الجمهورية تحديدًا، ولكنه أراد أن يؤكد أنّ هذه "العودة" لا تقتصر على الشكل بل على المضمون أيضًا، بمعنى أنّ "لبنان الجديد" هو جزءٌ من المنظومة العربية، ويرفض الإساءة لها بأيّ شكل من الأشكال.

ولعلّ ذلك يتجلّى بوضوح في كلمة الرئيس عون أمام القمّة، والتي تعمّد تضمينها العديد من المواقف، التي تبدو أقرب إلى "رسائل الطمأنة" إن جاز القول، ومنها المقطع المرتبط بما "تعلّمه" لبنان من "دروس"، ومن بينها ألا يكون مستباحًا لحروب الآخرين، وألا يكون مقرًا ولا ممرًا لسياسات النفوذ الخارجية، ولا مستقرًا لاحتلالات أو وصايات أو هيمنات، وألا يسمح لبعضه بالاستقواء بالخارج ضد أبناء وطنه (...) وألا يسمح لبعضه الآخر باستعداء صديق أو شقيق، أو إيذائه فعلاً أو قولاً".

ويقول العارفون إنّ ما سهّل مهمّة الرجل إلى حدّ بعيد، يتمثّل في الظروف التي أحاطت بجولته الخارجية الأولى، والتي أوصلته أساسًا إلى سُدّة الرئاسة، بما يفترض أن يبدّد هواجس الرياض وغيرها من الدول العربية، ويطمئنها، خصوصًا أنّ المشكلة الأساسية كانت مرتبطة بما اعتبرته دول الخليج "خروجًا" من جانب لبنان الرسمي عن مبدأ "التضامن العربي"، كرمى لعيون إيران إن صحّ التعبير، وهو ما تغيّر، مع تراجع نفوذ إيران، كما "حزب الله".

بمعنى آخر، فإنّ الرسالة الأساسية من جولة عون الخارجية، التي كرّرها في الرياض وفي القاهرة، وفي اجتماعاته مع مختلف القادة العرب، قوامها أنّ "شوائب الماضي" قد ولّت، وأنّ لبنان "تعلّم الدرس"، وهو أنّ مصلحته تبقى أساسًا مع محيطه العربي، وهو يحاول من خلال ذلك أن يحثّ العرب على العودة إلى لبنان، والاستثمار فيه، وهو الذي يعرف أنّ تعافي لبنان بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، لا يمكن أن يكتمل من دون دعم عربي.

في النتيجة، يمكن القول إنّ رئيس الجمهورية نجح في جولة "جسّ النبض"، إن صحّ التعبير، بدليل ما لاقاه من حفاوة، لكنّ الثابت أنّ ما تحقّق يبقى مجرّد "خطوة أولى"، يفترض أن تستكمَل بتوقيع بعض الاتفاقيات الجاهزة خلال زيارة مفترضة بعد شهر رمضان إلى الرياض، ليبقى "المحكّ" الأساسيّ في ترجمة الأقوال عمليًا، والشروع بورشة الإصلاحات المنتظرة، والتي ما عاد خافيًا على أحد أنها "شرط عربي ودولي" لمساعدة لبنان!.