تأتي صلاة المديح لتضعنا أمام نبوءة إشعياء النبيِّ: «ولكنْ يعطيكم السيِّد نفسُه آية: ها العذراء تحبَل وتلد ابنًا وتدعو اسمه "عمَّانوئيل"»» (إشعياء 7: 14). الآية واضحة في بدايتها؛ إنَّها معطاة من الربِّ، كما أنَّها جليَّة في خاتمتها «الربُّ معنا»، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا لكونه دائم الوجود والكينونة، وهذا معنى «عِمَّانوئيل».
أتت الآية تاريخيًّا في خضمِّ معارك وحروب، أتت تشجيعًا ومؤازرة وتحديد مسار، أي ألَّا نطلب معونة إلَّا من المخلِّص مهما كانت الظروف والصعاب والتحدِّيات.
حياتنا على الأرض مليئة بالصراعات الَّتي لا تنتهي، ومخطئ مَن يظنُّ أنَّه بمنأى عنها، وقد اعتبرها الآباء القدِّيسون ضروريَّة للخلاص والتنقية، لذا قالوا: «ارفعوا التجارب فلا أحد يخلص»، ولكن في الوقت نفسه آمنوا بما أعلنه السيِّد لنا: «وها أنا معكم كلَّ الأيَّام إلى انقضاء الدهر» (متَّى 28: 20).
قوَّة المؤمن اتِّحادُه بيسوع الَّذي له الغلبة، ومَن عرفه أيقن قوله: «ثِقُوا: أنا قد غلبتُ العالم» (يوحنَّا 16: 33). القدِّيسون مثال لنا في جهادنا، وعلى رأسهم والدة الإله الَّتي جاز السيف (الصليب) في قلبها (لوقا 2: 35)، لكنَّها بقيت واقفة وصامدة تشاهد ابنها المصلوب يلفظ نفسه الأخير، وما من معين لها إلَّا بعض النسوة اللواتي كنَّ يرافقنها في خدمة يسوع، والتلميذ الفتى يوحنَّا الإنجيليُّ الَّذي أوكله الربُّ بها ليحفظها: «هُوَذَا أُمُّكَ» (يوحنَّا 19: 27)، كما عزَّى الربُّ يوحنَّا بقوله: «يا امرأةُ، هُوَذا ابنُكِ» (يوحنَّا 19: 26). ومنذ تلك اللحظة، دخلت البشريَّة بعلاقة وأمانة ومرافقة مع أمّ المخلّص.
العلاقة تكمن في كوننا جميعًا تلاميذ يحبُّنا الربُّ كما أحبَّ يوحنَّا. والأمانة في أن نبقى تلاميذ مخلصين للربِّ وإنجيله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن نحافظ على والدة الإله بتكريمها التكريم اللائق بها ونطوِّبها كما أتى في نشيدها: «فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني» (لوقا 1: 48). نشيدها أتى ثمرة تواضعها الَّذي جعل الربَّ ينظر إليها وفق ما تذكر الآية نفسها، والجهتان متكاملتان لا ينفصلان البتَّة.
أمَّا المرافقة فهي بشفاعة والدة الإله الَّتي خبرها المسيحيُّون منذ بدء البشارة وترجموا الشفاعة نصوصًا وصلوات وأناشيد وفنًّا كنسيًّا من القرون الأولى للمسيحيَّة. وهناك مخطوطة من ورقة البَرْدِيِّ باللغة اليونانيَّة، اللغة نفسها الَّتي كتبت فيها الأناجيل، هي وجدت في مصر قرب مدينة الاسكندريَّة، مدوَّنًا فيها صلاة إلى والدة الإله، مفادها: «إلى رأفتك نلتجئ، يا والدة الإله، فعن طلباتنا لا تغفلي في الضيقات، لكن نجِّينا من المخاطر يا نقيَّة وحدك، يا مباركة وحدك».
هذا ما نصلِّيه دائمًا، مدركين تمام الإدراك أنَّ المخلِّص الوحيد هو الربُّ يسوع المسيح، وأنَّ شفاعة القدِّيسين لا تحلُّ مكان خلاص الربِّ لأنَّها أصلًا تنبع منه، ومتَّحدة به اتِّحادًا كاملًا، كما أنَّ وجودها تأكيد أنَّ الربَّ أسَّس كنيسة وأصبحنا به عائلة واحدة: «فلستم إذًا بعدُ غرباء ونُزُلًا، بل رعيَّةٌ مع القدِّيسين وأهل بيت الله، مبنيِّين على أساس الرسُل والأنبياء، ويسوعُ المسيح نفسُه حجرُ الزاوية، الَّذي فيه كلُّ البناء مركَّبًا معًا، ينمو هيكلًا مقدَّسًا في الربِّ. الَّذي فيه أنتم أيضًا مبنيُّون معًا، مسكنًا للَّه في الروح» (أفسس 2: 19-22).
وكم يستحضرنا ما قاله يسوع لنا قبل توجُّهه إلى الصلب طوعًا: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: مَن يؤمن بي فالأعمال الَّتي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها، لأنِّي ماضٍ إلى أبي» (يوحنَّا 14: 12). وعمل الربِّ في القدِّيسين يستمرُّ ولا يفصله أيُّ رقاد، لأنَّ ما نسمِّيه موتًا هو في الحقيقة انتقال إلى الحياة الأبديَّة مع يسوع، إذا رغبنا بذلك وأحسَنَّا الجهاد المقرون بالأعمال بتوبة صادقة.
الصلاة المكتشفة تبرز جليًّا أهمِّيَّة شفاعة القدِّيسين عند المسيحيِّين الأوَّلين. وما يقوله بولس الرسول: «فأطلبُ أوَّل كلِّ شيء، أن تقام طِلبات وصلوات وابتهالات وتشكُّرات لأجل جميع الناس، لأنَّ هذا حسَنٌ ومقبول لدى مخلِّصنا الله، الَّذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحقِّ يُقبِلون. لأنَّه يوجَد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس: الإنسان يسوع المسيح» (1 تيموثاوس 2: 1-5) يصبُّ في السياق نفسه، مؤكِّدًا أنَّ المخلِّص هو «الإنسان يسوع» أي الإله المتجسِّد (الإنسان) والفادي، وكلُّنا متَّحدون به لأنَّه نبع الخلاص. الهدف من الكلام كلِّه أنَّنا جماعة مصلِّية إلى أبد الآبدين.
بالعودة إلى آية إشعياء الَّتي ذُكرت أعلاه، فالكلمة ها «العذراء» المستعملة، لها أهمِّيَّة كبيرة، إذ النبيُّ استعمل كلمة «almah» وتعني عذراء صغيرة قد تكون مخطوبة، ولم يستعمل كلمة «ishah» أي امرأة متزوِّجة. وقد أتت الآية استكمالًا لما قاله الربُّ لآحاز الملك: «اطلُبْ لنفسِكَ آية من الربِّ إلهك. عَمِّقْ طلبك أو رفِّعْهُ إلى فوق» (إشعياء 7: 11). إذًا ما قيل هو إعلان إلهيٌّ. كما نلاحظ أنَّ المولود منسوب للمرأة وليس للرجل كما جرت العادة، وهذا يذكِّرنا بأوَّل آية خلاصيَّة عن التجسُّد الإلهيِّ، أي ما قاله الربُّ للحيَّة (الشيطان): «وأضع عداوة بينك (الحيَّة) وبين المرأة (حوَّاء)، وبين نسلك ونسلها. هو (يسوع) يسحق رأسكِ، وأنتِ تسحقين عَقِبَهُ (إشارة إلى الصلب)» (تكوين 3: 15).
فنِّيًّا هناك أيقونة تمثِّل آية إشعياء، وتُعرَف بعذراء الآية، وأيضًا بمَن هي أرحب من السماوات (platytera ton ouranon - Πλατυτέρα τῶν Ουρανῶν) ومكانها في حنيَّة الهيكل. والدة الإله فاتحة ذراعيها تصلِّي وتمجِّد وتتضرَّع، حتَّى فتحة يديها تشبه الصليب الَّذي عليه فدانا يسوع، ونشاهد الربَّ في وسطها ضمن دائرة أو من دون الدائرة، يباركنا بيده اليمنى وبيده اليسرى قد يكون حاملًا لفيفة، إشارة إلى تحقيق النبوءات، أو يبارك بيده اليسرى أيضًا. تقول لنا الأيقونة: لقد تحقَّق وعد الخلاص. ويعتبر التصوير من أقدم التصاوير ونجده كجداريَّة في دياميس روما من القرن الميلاديِّ الثالث.
ختامًا، المخلِّص معنا فهل نحن معه؟
إلى الربِّ نطلب.