مجدّدًا، يقع السوريون في "المحظور"، بعدما اعتقدوا أنّهم تجاوزوا "الامتحان الصعب"، عندما انتهت عملية "ردع العدوان" قبل ثلاثة أشهر من دون ضربة كفّ، عقب فرار الرئيس السابق بشار الأسد، لتسير الأمور بسلاسة بعد ذلك، فتتكرّس القيادة الجديدة بحكم الأمر الواقع، وتباشر إجراءات المرحلة الانتقالية، بما في ذلك العدالة الانتقالية، سواء عبر التوقيفات لبعض المحسوبين على النظام السابق، أو التسويات التي أبرِمت مع آخرين.
لكن ما كان متوقَّعًا منذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، حصل بعد ثلاثة أشهر، فعادت مشاهد الاقتتال لتهيمن على المشهد السوري، وتأخذ منحنى غير مسبوق، قد يكون أخطر من مسار سنوات الحرب الطويلة التي أعقبت ثورة العام 2011، في ظلّ عمليات الانتقام والقتل العشوائي، أو بالأحرى على الهوية الطائفية، وسط أعمال عنف وقتل ممنهج استهدفت بشكل أساسيّ العلويّين، وسط مخاوف على مصير الأقلّيات.
وإذا كانت القيادة السوريّة الجديدة التي حمّلت من وصفتهم بـ"فلول الأسد" مسؤولية تدهور الأوضاع، متحدّثة عن محاولة من قبل هؤلاء لجرّ البلاد إلى الفتنة الطائفية والحرب الأهلية، فإنّ الثابت أنّ عناصر محسوبين على هذه القيادة ارتكبوا تجاوزات وانتهاكات "خطيرة"، وفق توصيف شبكات حقوقية سورية، أغلبها محسوبٌ أصلاً على معارضي نظام الأسد، وقد تحوّل إلى مرجع يُعتَدّ به في مرحلة الثورة السورية.
ومع أنّ الرئاسة السورية حاولت "احتواء" ما جرى، من خلال تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصّي الحقائق في أحداث الساحل السوري، إضافة إلى لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي، وأناطت بها مهمة التواصل المباشر مع أهالي الساحل لتقديم الدعم اللازم لهم، فإنّ ما جرى يقرع جرس الإنذار على أكثر من صعيد، فهل يكون ما حصل بداية لحلقات جديدة من مسلسل الحريق السوري المتنقّل، وأيّ تداعيات لكلّ ذلك على لبنان؟!.
على المستوى السوري أولاً، يبدو واضحًا أنّ ما جرى في الأيام الأخيرة في سوريا، ليس مجرّد "حادث عابر"، أو حتى "محاولة انقلاب أو تمرّد" تمّ إجهاضها، بل هو يؤشّر إلى "احتقان كبير" في النفوس، ترجم على الأرض باقتتالٍ أخذ منحنى خطيرًا جدًا، وسط مخاوف من سيناريوهات لا تتقاطع فقط مع "الحروب" التي وجدت نفسها فيها الكثير من دول ما سُمّي بالربيع العربي، ولكن ممّا هو أخطر من ذلك، ربطًا بمشاريع التقسيم والطائفية.
وفي هذا السياق، يتحدّث العارفون عن أبعاد عدّة لما جرى، فإذا كان صحيحًا أنّ مسلّحين محسوبين على نظام الأسد هم الذين بادروا إلى الهجوم، وهو ما يعني أنّ هناك من لا يزال يخطّط للانقلاب على القيادة السورية الجديدة، فإنّ الأخيرة في المقابل، لم تنجح في التحدّي الأكبر الذي تواجهه منذ سقوط الأسد، وفشلت في إظهار حدّ أدنى من "الانضباط" المطلوب، لتصبح تجاوزات وانتهاكات عناصرها المفترضين، هي الخبر.
ولذلك، تُعتبَر هذه القيادة "خاسرة" ممّا جرى، فهي وفق ما يرى كثيرون خسرت في ثلاثة أيام، جهود ثلاثة أشهر كاملة، خصوصًا بعدما استطاع الرئيس أحمد الشرع أن ينفض عنه إلى حدّ بعيد، "عباءة" أبو محمد الجولاني، إن جاز التعبير، فإذا به يستعيدها بصورة أو بأخرى من خلال أحداث الأيام الأخيرة، على الرغم من محاولات "الاحتواء"، بإصراره على رفض التجاوزات وتأكيده تشكيل لجنة لتقصّي الحقائق في أحداث الساحل.
ولعلّ الأخطر من الانعكاسات السياسية لما جرى، الهواجس التي استعادها السوريون سريعًا، وما أيقظته من شبح فتنة طائفية، خصوصًا على مستوى الأقلّيات، وسط مخاوف من تمدّد ما جرى في مناطق الساحل إلى أماكن أخرى، وتحديدًا إلى الجنوب السوري، علمًا أنّ ثمّة من تعّمد تحريك "ورقة الدروز" قبل أيام، وهو ما ينبئ بالأخطر، خصوصًا في ضوء التهديد الإسرائيلي بالتدخّل عسكريًا في حال "المساس بالدروز" على حدّ قول مسؤوليها.
وإذا كانت الخشية من تمدّد أحداث الساحل السوري إلى محافظات ومناطق سورية أخرى مشروعة، إذا لم يتمّ ضبط الأمور بشكل حازم، افتقدت له القيادة الجديدة في الأيام الأولى، فإن هناك من يخشى من انعكاسات على مستوى المنطقة برمّتها، بل الإقليم بصورة عامة، وبشكل أدقّ، على لبنان، الذي اعتاد على مرّ السنوات أن يتأثّر بما يجري في سوريا، وهو الذي كان له نصيب من أحداثها منذ العام 2011 حتى اليوم.
في هذا السياق، يذكّر العارفون بالمشهديّة التي أعقبت اندلاع الثورة السورية في العام 2011، وخصوصًا بعد دخول التيارات الإسلامية على خطّها، حين وجد الشمال نفسه في "قلب المعركة"، مع خروج عدد من أبنائه للقتال، قبل أن تصيب شظايا الحرب السورية الحدود اللبنانية، ولكن أيضًا مناطق لبنانية عدّة، بما في ذلك الضاحية الجنوبية لبيروت، التي شهدت موجة من التفجيرات الإرهابية التي وقفت وراءها تنظيمات متطرفة.
من هنا، تبدو الخشية مشروعة من أن يتكرّر السيناريو نفسه مرّة أخرى، في حال تفاقم الحريق السوريّ الذي بدأت بوادره بالظهور في الأيام الأخيرة، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ الوضع لا يزال مضبوطًا، وأنّ الأجهزة الأمنية بالمرصاد لأيّ محاولات لتوسيع دائرة الاشتباكات، علمًا أنّ لبنان استطاع أن يتجاوز الاختبار، بعد تسجيل بعض التحرّكات العفوية يومي الجمعة والسبت، تحت عنوان التفاعل مع الأحداث السورية.
ويشدّد العارفون على أنّ لبنان الرسمي يولي الأمر أهمية قصوى، فظروف اليوم مختلفة عن ظروف العام 2011 وما بعده، والعلاقات اللبنانية السورية اليوم ليست على ما كانت عليه في ذلك الوقت، فضلاً عن أنّ العهد الجديد يضع نصب عينيه المصلحة اللبنانية فوق كلّ اعتبار، وهو ما أكّده رئيس الجمهورية جوزاف عون في خطابه أمام القمة العربية الطارئة في القاهرة، حين شدّد على أن لبنان لن يكون ساحة لحروب الآخرين.
في النتيجة، لا شكّ أنّ أحداث الساحل السوري تقرع جرس الإنذار، على مستوى المنطقة برمّتها، لكن الأخطر من ذلك، أنّها تحيي المخاوف من سيناريوهات "سوداوية" يريد البعض زرعها في المنطقة، من الفتنة والحرب الطائفية، إلى التقسيم، وما أدراك ما التقسيم. ولعلّ الطريقة الأمثل للتصدّي لكلّ هذه السيناريوهات، تكمن في ضبط التجاوزات، والضرب بيد من حديد، وهنا مسؤولية القيادة السورية الجديدة، التي سيُبنى عليها الكثير لاحقًا!.