يحتار المرء في التعاطي مع الوضع الذي تعيشه سوريا اليوم، فمشاهد الهمجية السائدة في القتل والتعذيب لمختلف شرائح المجتمع السوري، تهز الضمائر وتلوي القلب. ولكن، في المقابل، فإن استغلال البعض لهذا الامر للنزوح الى لبنان والبقاء فيه، انما يؤثر سلباً على الحالات الإنسانية الحقيقية التي تبقى اقل بكثير من الاعداد الغفيرة التي اجتاحت لبنان منذ العام 2011 وحتى اليوم. حين انتهت الحرب في سوريا، وكان بشار الأسد لا يزال في الحكم، امتنع السوريون في لبنان عن العودة الى بلدهم بحجة انهم كلهم (وعددهم يفوق المليون ونصف المليون) ضد النظام، ولاقوا التشجيع والتأييد والدعم الكامل من الأمم المتحدة ومنظماتها والدول المنتمية اليها التي مارست ضغوطاً كبيرة على لبنان وفق أسلوب الترغيب والترهيب.

اليوم، وبعد رحيل الأسد وتسلم أبو محمد الجولاني ومن استطاع ان يجمعهم معه من فصائل ومنظمات، سيطروا على البلد ولاقوا التشجيع والتأييد والدعم الكامل من الأمم المتحدة ومنظماتها والدول المنتمية اليها، مع فارق كبير وهو ان هذا الدعم بقي من اجل بقاء النازحين السوريين في لبنان حتى ولو كانوا معا]ين للنظام السابق، ومؤيدين للسلطة الحالية التي تولت زمام الأمور. وها هم اللبنانيون اليوم يعيشون من جديد هاجس نزوح إضافي، هذه المرة من قبل "المغضوب عليهم" من السلطة وبعض المرتزقة الأجانب والجماعات التكفيرية الإرهابية الذين دفعوا بعائلات ومجتمعات على الساحل السوري، الى اللجوء الى لبنان حفاظاً على ارواحهم، فيما يقف العالم كله متفرجاً، ويتذرع الجولاني بأن من يقوم بذلك هم خارج سيطرته ولا ينتمون اليه، من دون ان يسميهم.

امام هذا الواقع المأساوي، يحتار المرء على من يبدي أسفه: على النازحين الجدد الذين فرّوا من بطش وهمجية المنظمات الجديدة التي تولت السيطرة؟ ما على اللبنانيين الذين كتب عليهم ان يعيشوا الامرّين بسبب موقعهم الجغرافي المحصور بين عدو معلن هو اسرئايل، وعدو خفي هو من استغل الجرائم والقتل في سوريا ليتمسكن في لبنان، ولو على حساب اللبنانيين انفسهم، فيما العالم يكتفي بالإعلان عن وقوفه الى جانب لبنان وشكره على "ضيافته"!.

هل من نهاية لهذه التراجيديا التي تلقي بثقلها على اللبنانيين وشريحة من السوريين؟ لا يبدو الجواب ايجابياً، لان الدول المعنية بحل الازمات والتي تسيطر على العالم كله، لا ترغب في حل المشكلة في سوريا ولبنان وإعادة النازحين الى ديارهم، فهم ينتظرون بكل بساطة تمرير الوقت وان تنضج الظروف التي تسمح بالتطبيع مع إسرائيل. ويقيناً، لو اعلن لبنان وسوريا اليوم انهما سيوقعان اتفاق التطبيع مع إسرائيل، لانحلت مشاكلهما بعصا سحرية شدد الخارج مراراً وتكراراً على انه لا يملكها، ولكنها ستظهر سريعاً في حال رضيت اسرائيل وأصبحت بأمان. ألم يكن هذا احد الشروط التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في رسالته المسرّبة الى ايران؟ ألم يتم الحديث عن رفع تدريجي للعقوبات وفتح السفارات اذا ما تعهدت ايران بترك إسرائيل بسلام، إضافة الى بعض الشروط الهامشية؟.

وللأسف، ليس من الممكن التطلع الى رئيس الجمهورية الجديد او الى الحكومة الجديدة لاصلاح الوضع، فهما قابعان ايضاً كغيرهما، في "انفاق" الدول الخارجية في انتظار صفقة ضد مصالح لبنان والدول المعنية لارضاء اسرائيل، تسمح بإخراجهما واعادتهما الى الحياة السياسية التي يرغبان فيها، ويعود عندها الحديث عن النهوض الحقيقي للبنان واسترجاع صورته ودوره، والا فإن الانسداد في الأفق سيطول قبل رؤية بصيص النور الذي تترقبه شعوب المنطقة بشكل عام، واللبنانيون بشكل خاص.