فجأة، ومن دون سابق إنذار، أو تمهيد، خرج الإسرائيليون ليعلنوا عمّا وصفوها ببادرة "حسن نيّة" إزاء الرئيس اللبناني جوزاف عون، تقوم على إطلاق سراح عدد من الأسرى الذين احتجزتهم قوات الاحتلال في مرحلة الحرب الأخيرة أو بعدها، وهي بادرة فُهِم لاحقًا أنّها جاءت بالتنسيق مع الجانب الأميركي، في سياق التمهيد لبدء مفاوضات لحل النزاعات المتعلقة بالحدود البرية بين لبنان وإسرائيل في المرحلة المقبلة.

لعلّ المفارقة أنّ ما سُمّيت ببادرة "حسن النيّة" الإسرائيلية جاءت "بالتوازي مع" استمرار "سوء النيّة"، إن صحّ التعبير، إذ إنّها تزامنت مع استمرار الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار، وهي التي لم تتوقف ليوم واحد منذ إبرام الاتفاق، عملاً بما تسمّيه إسرائيل "حرية الحركة"، وهو المبدأ نفسه الذي جعلها تبقي على وجود قواتها حتى الآن في خمس نقاط وُصِفت بالاستراتيجية داخل الأراضي اللبنانية.

وجاءت الخطوة الإسرائيلية أيضًا بعد أيام قليلة على مقابلة تلفزيونية للأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم، تمسّك فيها بسياسة "الصبر" التي يعتمدها الحزب إزاء الخروقات الإسرائيلية منذ اتفاق وقف إطلاق النار، لكنّه ألمح إلى أنّ هذه السياسة هي مجرّد "تكتيك"، وبالتالي فهي ليست من "الثوابت"، بل إنّه أوحى بأنّ الركون إلى الدولة يهدف في العمق إلى إثبات "الحاجة إلى المقاومة"، باعتبار أنّ تحرير الأرض لن يُنجَز بالحوار والدبلوماسية.

وسط هذا المشهد، ثمّة علامات استفهام تُطرَح حول معاني ودلالات ما وُصِفت ببادرة "حسن النية" الإسرائيلية، فهل هي تنمّ فعلاً عن "حسن نيّة"، وما الأهداف المتوخّاة من خلالها؟ وهل تمهّد هذه المبادرة، والمفاوضات التي يمكن أن تفضي إليها، لإنهاء الصراع القائم، وبالتالي لضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية؟ وهل يمكن القول إنّ احتمالات العودة إلى القتال قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها؟.

في المبدأ، ثمّة من يعتبر أنّ الحديث عن "حسن نيّة" عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل أبعد ما يكون عن الواقعيّة، فمن شنّ حرب إبادة على قطاع غزة وجنوب لبنان، ومن قتل النساء والأطفال بوحشيّة، ومن ابتكر جرائم ضدّ الإنسانية من نوعية "مجزرة البيجر" غير المألوفة حتى في الأفلام الخيالية، ومن لم يحترم توقيعه على اتفاق وقف إطلاق النار ويستمر بخرقه كلّ يوم، لا يمكن أن يهبط عليه الوحي، فيصبح "حسن النيّة" بين ليلة وضُحاها.

من هنا، ثمّة من يربط "حسن النيّة" هذا، بأهداف مضمرة، قد لا تكون "بريئة"، من بينها مثلاً محاولة الدخول على الواقع السياسي اللبناني، في ظلّ الانطباع القائم بأنّ الرئيس الجديد جوزاف عون، ينبغي أن يكون رئيس "مواجهة" إزاء "حزب الله"، وهو الذي حدّد في خطاب القسم عناوين سياسته، وضمّنها ضرورة احتكار الدولة للسلاح، وهو ما لا يحتمل القيل والقال، ولو قال الشيخ نعيم قاسم إنّ "حزب الله" لا يعتبر نفسه معنيًا به.

وفي السياق نفسه، ثمّة من يضع الإعلان الإسرائيلي في خانة الردّ الضمنيّ على ما قاله الشيخ قاسم في مقابلته الأخيرة، حين تحدّث عن مرحلة جديدة، ما يتغيّر فيها ليس الثوابت، وإنما الأساليب والطرق والأزمنة، وشدّد على أن المقاومة مستمرّة "في الميدان"، وفق قوله، وإن انعدام العمل المقاوم يعني أنه لن يكون هناك لبنان خلال بضع سنوات، وهو ما أثار جدلاً واسعًا في الأوساط الداخلية، عن استعادة الحزب لسرديّات ما قبل الحرب.

ويقول أصحاب هذا الرأي إنّ الخطوة الإسرائيلية يمكن فهمها في سياق الردّ على "سرديّة" قاسم، من باب أنّ الأخير شكّك بقدرة الدولة على إنجاز شيء من دون المقاومة، في حين أن إسرائيل تقول إنّها "تبادر" إزاء الرئيس اللبناني، وبالتالي أنّها يمكن أن تعطي لبنان في الدبلوماسية، إن تخلّى عن المقاومة المسلحة، وإن قدّم لها ما تريد، وما تريد يصل إلى مبدأ "التطبيع" الذي بدأ بعض المسؤولين الإسرائيليين يرفعون لواءه صراحة، وفي العلن.

لكن، أبعد من كلّ ذلك، يقول العارفون إنّ الخطوة الإسرائيلية تأتي بالدرجة الأولى، في سياق "ضغوط أميركية" لم تعد خافية على أحد، وهي الضغوط التي حافظت مثلاً على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ومنعت انهياره، رغم "هشاشته الظاهرة"، علمًا أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يسعى منذ انتخابه رئيسًا إلى تكريس جو من "التهدئة"، ولو بالحدّ الأدنى، في المنطقة، من أجل المضيّ قدمًا بمخططاته ومشاريعه، التي كشف عن بعضها.

وقد تكون مفاوضات ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، أحد "الأهداف الأميركية"، إن صحّ التعبير، باعتبار أنّ إدارة ترامب تريد تحقيق إنجاز في هذا الإطار، بعدما نجحت إدارة الرئيس السابق جو بايدن في التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، وهي بالتالي تريد حسم البنود الإشكالية التي لا تزال عالقة بين البلدين، أو ما تُعرَف بالنقاط الـ13، بما ينهي احتمالات تجدّد القتال في أيّ وقت مستقبلاً.

لكن ثمّة من يعتبر أنّ هدف إدارة ترامب قد يكون أبعد من ذلك، وصولاً إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين لبنان وإسرائيل، خصوصًا أنّ الرئيس الأميركي الذي نجح في ولايته الأولى في إطلاق ما سميت باتفاقات "أبراهام" لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية بينها الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، يريد أن يستكمل الأمر في ولايته الحالية، بدءًا من المملكة العربية السعودية، وصولاً إلى دول المنطقة.

إلا أنّ كلّ ما تقدّم لا يعني، بحسب العارفين، أنّ مسار "التهدئة" سلك طريقه ليدخل حيّز التنفيذ، علمًا أنّ استكمال إسرائيل لغاراتها واستهدافاتها، بل ربما تكثيفها في اليومين الماضيين، وصولاً إلى إعادة التحليق فوق العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، تهدف من خلاله إلى توجيه أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، تتقاطع عند "ثابتة" أنها بقدر "انفتاحها" على التوصل إلى تسوية مع لبنان، جاهزة للعودة إلى القتال، متى شعرت بأيّ تسويف أو مماطلة.

هو "الغموض البنّاء" الذي لم يغادر الساحة اللبنانية، منذ فتح "حزب الله" جبهة الإسناد في تشرين الأول 2023، ردًا على الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة، "غموض" صعدت مؤشراته وهبطت مرارًا، ربطًا بمجريات الميدان والسياسة، لكنه اليوم يبدو في ذروته، فصحيح أنّ "حزب الله" منكفئ، لكنه يلوّح بالعودة في "اللحظة المناسبة"، وعلى المنوال نفسه، إسرائيل تلوّح بالتسوية بيد، وبالعودة إلى الحرب باليد الأخرى، فأيّهما تصمد؟!.