بعد ان نصّبت اميركا نفسها "سيدة العالم"، وبعد ان نجحت في تحويل ابو محمد الجولاني من مجرم، الى قائد للثورة السورية و"حامي المظلومين" هناك، ها هي تقلب الامور رأساً على عقب بالنسبة الى صورة وحضور اسرائيل على الساحة الدولية. فمنذ اشهر قليلة فقط، كانت تل أبيب تصارع لاثبات نفسها على انها تتبع النهج الديمقراطي، وان كل ما قامت به كان من اجل غد افضل لمنطقة الشرق الاوسط والعالم، فكانت التظاهرات الشاجبة والتحركات الشعبية في مختلف دول العالم، والنقمة -حتى في الداخل الاميركي- على الابادة الجماعية التي كانت ترتكبها بحق الفلسطينيين والجرائم بحق اللبنانيين. فجأة، انقلبت الامور رأساً على عقب، وها هو صك البراءة يصدر ويصفح عن اسرائيل كل المجازر والمآسي والويلات التي ارتكبتها والتي كانت الاقسى في التاريخ المعاصر، وباتت اليوم تعمل على اقناع الجميع انها المدافعة عن المدنيين (تعهدت بالدفاع عن الدروز في سوريا) ليس من اجل اطماعها وسيطرتها على اراض سوريا، بل من اجل سلامة الانسان! كما انها هي نفسها التي اعلن رئيس وزرائها صاحب اليدين الملطختين بدماء الاطفال، انه قام بمبادرة "حسن نية" تجاه الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون واطلق سراح اسرى لبنانيين اختطفتهم اسرائيل خلال الحرب الاخيرة وبعدها، وذلك ليس لحل الامور العالقة وضمان الامن والاستقرار على الحدود الجنوبية اللبنانية، انما من اجل الاظهار للبنانيين ان الاسرائيليين يحبونهم ويريدون الخير لهم!.

ما ارتكبه نتنياهو على مدى اكثر من سنة ونصف السنة من قتل وتدمير وتهجير وجنون، تطلب اقل من اسابيع فقط ليتم محوه تماماً، ولا يجب ان يتفاجأ احد اذا ما تم ترشيحه لنيل جائزة نوبل للسلام، خصوصاً وان ليس هناك من يجرؤ على تنفيذ مضمون مذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحقه، فهو "بريء" و"مظلوم"، وعلى من اصدر هذا القرار ان يدفع الثمن.

يسير القطار الاميركي بقيادة الرئيس الحالي دونالد ترامب بسرعة قياسية على مسار التطبيع وتغيير المنطقة والعالم بشكل جذري، وتجلس اسرائيل على المقعد المحاذي للسائق، واذا ما استمرت الوتيرة على ما هي عليه، فلن نتأخر لنرى حلم التطبيع وربما اتفاقات السلام تنهال على اسرائيل من كل ميل وصوب، بما فيها لبنان وسوريا طبعاً. كل ذلك، والعالم العربي يقف متفرجاً، لا بل مصفقاً ومقدراً للامكانات الاميركية والغربية في تأمين مصالح اسرائيل، وبدل مضاعفة الجهد واستغلال لحظة نادرة لا تتكرر، لادانة اسرائيل وكسب التأييد العالمي ضدها، ركب العرب القطار الاميركي وقدموا كل الدعم اللازم له.

هذه هي الصورة التي تعمل عليها الادارة الاميركية بالتنسيق مع الاسرائيليين، وتكمن الخطوة الاولى فيها في "دفن" كل الافعال السيئة والاجرامية التي التصقت باسرائيل منذ تشرين الاول 2023 وحتى اليوم، واستبدالها بصورة كاذبة تصوّر الذئب الاسرائيلي على انه حمل وديع يتوق الى السلام ويطمح الى رفع شأن الانسانية. وللاسف، فإن ادوات التجميل المستعملة تأخذ طريقها نحو النجاح، لانها اميركية الصنع ولا يمكن لاحد ان يعطي رأيه الصريح فيها، خوفاً من ردة فعل "جنونية" قد يقدم عليها ترامب بعد ان تحول الى "وحش كاسر" اظهر جزءاً مما يمكن ان يفعله بعد ان تم وضع الرئيس الاوكراني فولودومير زيلنسكي كذبيحة على طاولة الرئيس الاميركي الذي افترسه من دون تردد.

قد لا يملك البعض وفي مقدمهم اللبنانيون، القدرة على قلب الامور وتغييرها، خصوصاً بعد المحاولة غير الناجحة التي خاضوها ودفعوا ثمنها غالياً، ولكن هذا لا يعني انه يجب السكوت وتغيير المبادئ والقبول بتحويل الاسود الى ابيض من دون ارضاء النفس ولو بالاعتراض الشفهي، الذي قد لا يقدم ولا يؤخر، الا انه مجرد شكليات للتاريخ و"فشّة خلق" بأن يبقى للحق وجود ولو بصورة رمزية.