يُدخلنا الأحد الثاني من الصوم الأربعينيِّ، في استباق ملكوتيٍّ يسود فيه الصمت الإلهيُّ، وتُسمَعُ فيه خفقات القلوب العاشقة للربِّ، الَّتي تلهج بالقدُّوس ليلًا ونهارًا، وتصلِّي، بلا انقطاع، الصلاة القلبيَّة الَّتي تعرف بصلاة الربِّ يسوع: «يا ربِّي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ».

لا يظنَّنَّ أحد أنَّ الأمر ترداد وتكرار لكلمات – لا سمح الله، إنَّما هي في الحقيقة تعبِّر عن رحمة الله اللامتناهية أمام عدد خطايانا الَّتي تفوق رمال شواطئ البحور والصحاري. ففي كلِّ مرَّة يتلو المؤمنون الصلاة يمجدِّون الله لكبر محبَّته لنا.

ثمار الصلاة القلبيَّة النقيَّة هي استنارة الذهن «النوس νοῦς» وتألُّه الإنسان بالنور الإلهيِّ غير المخلوق المنحدر نحو المصلِّي، وامتلاؤه من الروح القدس. وهذا يجعل المستنير سكنى للقوى الإلهيَّة غير المنفصلة عن الجوهر الإلهيِّ.

حالة الصلاة النقيَّة تدعى في اللاهوت الشرقيِّ «الهدوئيَّة Hesychasme»، وهي حالة سكون النفس والجسد معًا، أي أن يصبح الإنسان عائشًا سلامًا إلهيًّا لكونه أصبح سكنى للروح القدس، فتموت فيه الأهواء المعيبة، ويزهد بكلِّ ما هو ترابيٌّ وفانٍ، وقلبه لا يشتهي إلَّا الاتِّحاد بيسوع.

كذلك هي حالة الرّاحة الإلهيَّة لأنَّ القدِّيسين يستريحون في الربِّ، ويصبحون بالتالي ميناء لطالبيها. إنَّه هدوء حضور الربِّ الَّذي أسكت العواصف، وهدوء الفكر والعواطف والأحاسيس والمشاعر، فتعلو عندهم الحكمة والتمييز وحسن البصيرة. هذا كلُّه يكون في صمت فرح مليء بالمحبَّة والعطف والحنان. وهو صمت عدم التبجُّح ومقت الكبرياء، صمت الابتعاد عن حبِّ المظاهر ورفض طلب تمجيد الناس، صمت عدم الظلم وفعل الأذى. إنَّه صمت المتواضعين وصمت والدة الإله الَّتي كانت تضع كلَّ شيء في قلبها وتقدِّمه للربِّ مخلِّصها.

ولكنَّه ليس الصّمت عن التكلُّم بالحقائق الإلهيَّة، وليس الصمت عن النطق بالحقِّ الَّذي هو الربُّ يسوع المسيح الَّذي قال: «أنا هو الطريق والحقُّ والحياة» (يوحنَّا 14: 6)، لأنَّ الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، وواجبنا أن نشهد للربِّ في كلِّ لحظة وأينما كنَّا: «لأنَّه إنْ كنتُ أبشِّر فليس لي فخر، إذ الضرورة موضوعة عليَّ، فويل لي إن كنتُ لا أبشِّر» (1 كو 9: 16).

كلُّ ما ذكر أعلاه عاشه بالملء القدِّيس غريغوريوس بالاماس (1296 - 1359م)، لهذا دعت الكنيسة الأحد الثاني باسمه ليكون معلِّمًا لنا وقدوة في صومنا.

ففي الأحد الأوَّل، أحد استقامة الرأي، زيَّحنا أيقوناتنا المقدَّسة معلنين انتصار الإيمان القويم، وفي الأحد الثاني نحن مدعوُّون لنكون الأيقونات المقدَّسة، وذلك بعيش الهدوئيَّة بتوبة صادقة.

جمع القدِّيس غريغوريوس بالاماس في شخصه العلم الدنيويَّ والإيمان. كان رجلًا عائشًا اللاهوت فاختاره الرهبان الآثوسيُّون ليدافع عن الهدوئيَّة واللاهوت الشرقيِّ في وجه شخص غربيٍّ على درجة عالية من العلم يدعى برلعام، وهو إيطاليُّ الجنسيَّة، اعتنق الأرثوذكسيَّة كذبًا وبدأ ينقض تعاليمها حول صلاة الذهن في القلب، متسلِّحًا بأفكار بشريَّة، جاهلًا كلَّ الجهل ممارسة الصلاة القلبيَّة، لا بل محاربًا لها ومتَّهمًا ممارسيها بالهذيان، رافضًا كلَّ الرفض أن يتألَّه الإنسان منذ الآن.

دحض القدِّيس غريغوريوس حجج مهاجمه، ولكن هناك ألف برلعام وأكثر، يسيرون على منوال برلعام في حربهم ضدَّ الإيمان المستقيم. ولكنَّ الرّوح القدس حاضر دائمًا في الكثير من المدافعين الَّذين يسيرون على خطى بالاماس.

أخذ غريغوريوس صلاة يسوع من والده الَّذي كان يمارسها باستمرار حتَّى وهو جالس في منصبه كعضو في مجلس الشيوخ، فكان يغرق في الصلاة أمام الإمبراطور.

القدِّيس من عائلة نبلاء إلَّا أنَّه تربَّى على أنَّ النبل الأوَّل يأتي من الربِّ، وكذلك غناه. فوالدته أيضًا كانت مصلِّية بامتياز. بعد وفاة والده تعهَّده الإمبراطور ونشأ في القصر الملكيِّ، ولكنَّ عشقه كان للقصر الملكوتيِ في السماء.

ترك كلَّ شيء في العشرين من عمره وترهَّب في جبل آثوس، وكان يصلِّي دائمًا للربِّ لكي ينير ظلمته. ويذكر أنَّ العائلة أيضًا ترهَّبت كلُّها.

سيم غريغوريوس كاهنًا وساعد في نشر صلاة يسوع بين كلِّ المؤمنين، إكليريكيِّين وغير إكليريكيِّين، لأنَّها لجميع الناس.

مهمٌّ جدًّا أن ندرك بأن غريغوريوس نقل خبرة الآباء منذ بداية المسيحيَّة، وهذا ما نسمِّيه التّسليم الشّريف المستمرَّ بالروح القدس. وتكلَّم على أنَّ النور الإلهيَّ النازل على المصلِّي هو نفسه نور التجلِّي الَّذي هو ملكوت الله. وهو نفسه النور الَّذي عاينه موسى في العلَّيقة المشتعلة وغير المحترقة، وهو الَّذي ظهر أيضًا على بولس الرسول في طريقه إلى دمشق وهداه. إنَّه النور الَّذي لا بداية له ولا نهاية، الَّذي اختبره الآباء القدِّيسون على مرِّ التاريخ، وهو مستمرٌّ.

انتخب غريغوريس أسقفًا على مدينة تسالونيك وترك لنا دفاعاته الَّتي جرت في أقبية كاتدرائيَّة الحكمة الإلهيَّة في القسطنطينيَّة، وذلك في ثلاثيَّة غَنيَّة جدًّا.

انتهت المناقشات بحرم برلعام بعد انعقاد مجمعَين كنسيَّين في العام 1341م، ومجمع في العام 1351م ضدَّ مناصري برلعام الَّذي ذهب إلى إيطاليا وعُيِّن أسقفًا فيها.

أسر الأتراك غريغوريوس لمدَّة عام، سنة 1353 – 1354م، بحيث لم يتوقَّف عن التبشير في اعتقاله.

رقد القدِّيس في تسالونيك ووجهه يشعُّ نورًا ملأ قلَّايته.

أعطنا يا ربُّ أن نعيش النور الإلهيَّ.

إلى الربِّ نطلب.