قد يكون مجرّد إقرار التعيينات الأمنية والعسكرية التي طال انتظارها، "إنجازًا" يسجَّل للعهد الجديد، بمعزل عن كلّ التفاصيل والخلفيات والآليات، ليس فقط لكونه ينطلق على وقع "نفضة شاملة" يريدها منسجمة معه، ولكن لأنّ الكثير من المراكز الحسّاسة شغرت أيضًا منذ فترة طويلة، وأصحبت تُدار إما بالنيابة، أو بالوكالة، أو حتى باللجوء إلى التمديد، كما حصل مثلاً في قيادة الجيش حتى انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية.

ولكن، أبعد من فِعل الإقرار بحدّ ذاته، ثمّة تفاصيل لا بدّ من الوقوف عندها في مقاربة الموضوع، فالتعيينات الأمنية والعسكرية شكّلت الاختبار، أو التحدّي الأول، أمام العهد الجديد وحكومته الأولى، وهو الذي رفع السقف في خطاب القسم، كما في البيان الوزاري، فصعّب المهمّة على نفسه برأي كثيرين، حين أصرّ على "تغليب" شعار الخبرة والكفاءة، بعيدًا عن المحاصصة والمحسوبيّات، التي لطالما شكّلت "عصب" التعيينات على أنواعها.

ومع أنّ الحكومة أنّ التعيينات الأمنية حصلت فعلاً بالاستناد إلى الكفاءة، وليس أيّ شيء آخر، إلا أنّ الأمر لم يمرّ من دون انتقادات، ارتقت لمستوى التحفّظات، بل الاعتراضات، في بعض الأوساط السياسية، التي اعتبرت أنّ شيئًا لم يختلف في طريقة إقرار التعيينات بين هذا العهد والعهود السابقة، خصوصًا أنّ ما فعلته الحكومة هو أنّها "صادقت" على تفاهم مسبق أبرم بين رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، من دون أيّ نقاش.

وقد أعاد هذا الأمر رسم مشهدية "الترويكا" التي حكمت لبنان على مرّ السنوات، لتُطرَح علامات استفهام بالجملة حول ما إذا كان العهد "سقط" في امتحانه الأول، بفعل الهجوم الحاد الذي تعرّض له حتى من بعض مؤيّديه المفترضين، الذين سألوا عن الآلية والمعايير التي اعتُمِدت، أم أنّه تجاوزه عمليًا، انطلاقًا من "خصوصية" التعيينات الأمنية والعسكرية تحديدًا، التي تتطلّب مقاربة مختلفة عن التعيينات الإدارية والقضائية والمصرفية المنتظرة؟!.

بالنسبة إلى "المتحفّظين" على الطريقة التي أقرّت فيها التعيينات الأمنية والعسكرية، فإنّ المفارقة المثيرة للانتباه تبقى أنّ شيئًا لم يتغيّر في "صيغة" التعيينات عمّا كان يحصل في العهود السابقة، بمعزل عمّا إذا كان القادة الجُدُد يلبّون فعلاً معيار "الكفاءة"، فكلّ من رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب اختار القائد الأمني "المحسوب" على طائفته، فخرجوا جميعًا راضين مرتاحين للنتيجة، من دون أيّ اعتراض أو تحفّظ.

أكثر من ذلك، ثمّة بين "المنتقدين" من يتوقّف عند بعض التسريبات ليرى فيها "إدانة" لصيغة التعيينات، فبعض المعلومات أشارت إلى "اعتراض" على أحد الأسماء التي اقترحها رئيس مجلس النواب للمديرية العامة للأمن العام بسبب ما قيل إنّها "بعض الشبهات"، فتمّ استبداله بآخر، لتكون المفاجأة أنّ هذا الاستبدال أقرِن بجائزة "ترضية" من خلال تسمية الأول نائبًا لرئيس جهاز آخر، فتزول الاعتراضات والشكاوى.

وإذا كان هذا المسار متوقّعًا برأي كثيرين، باعتبار أنّ مسار تأليف الحكومة شكّل "خطوة أولى" على خطّه، إلا أنّ المعترضين يعتبرون أنّ الأمر مختلف، فمراضاة "الثنائي الشيعي" حكوميًا مثلاً جاءت تحت عنوان "الواقعية السياسية" التي كانت تتطلب وجوده في الحكومة، بما يمثّل من حيثية شعبية، إلا أنّ استخدام الشعار نفسه على مستوى التعيينات لا يستقيم، خصوصًا أنّ ذلك جاء على حساب المعايير التي حدّدتها الحكومة لنفسها.

بهذا المعنى، يرى هؤلاء، وبعضهم من الدائرة الضيقة المحيطة برئيس الحكومة مثلاً، أنّ التعيينات جاءت مخيّبة للآمال، بالطريقة التي أقرّت بها، وليس بالضرورة بنتيجتها، خصوصًا أنّها كرّست في مكان ما منطق المحاصصة، وكأنّ شيئًا لم يكن، بغياب أي آلية واضحة، حيث كان دور مجلس الوزراء مجرّد "البصم" على اتفاق حصل في خارجه، من دون أن يكون له "حقّ" النقاش إن صحّ التعبير، وهذا ما لم يبدُ منسجمًا مع الوعود التي أطلِقت.

أكثر من ذلك، ثمّة من يعتبر أنّ ما حصل بدا "متناقضًا" مع عناوين خطاب القسم والبيان الوزاري، اللذين أوحيا في مكان ما بأنّ العهد سيؤسّس لـ"ثورة" على كلّ الأعراف السابقة، فإذا به يلتزم بها حرفيًا، حتى إنّ هناك من أراد تبرير الطريقة التي تمّت بها التعيينات، عبر اللجوء إلى منطق "الحصص"، ليقول إنّ هذا المركز الأمني هو "حصّة" رئيس الجمهورية، وذلك "حصّة" رئيس الحكومة، والثالث "حصة" رئيس مجلس النواب.

وعلى قدر ما يبدو "منطق الحصص" هذا مستفزًا، إلا أنّ هناك في المقابل من يعتبره "واقعيًا"، فالتعيينات الأمنية والعسكرية لها طابع خاص برأي هؤلاء، وما يجب التركيز عليه في هذه المرحلة أنّها أقرّت، ولم يتمّ تأجيلها، خصوصًا بعد الحديث عن تباينات كان من الممكن أن تطيح بها، أو تجزّئها إن صحّ التعبير، في وقت يدرك القاصي والدني "حساسيّة" هذه التعيينات، وأهمية ملء المناصب التي شغرت في الآونة الأخيرة من دون أيّ مماطلة.

ويقول المدافعون عن العهد، إنّ مجرّد إقرار التعيينات أمر إيجابي، لكن ما قد يكون أكثر إيجابية هو أنها أقرّت دفعة واحدة، وعلى طريقة "السلّة الكاملة"، ما أعطى انطباعًا بأنّ العهد ينطلق بزخم وقوة، وقد حرص على أن يبلور فريق عمله الأمني والعسكري، بحيث يكون منسجمًا، علمًا أنّ هذه التعيينات قد تستكمَل بما خصّ منصبي مدير المخابرات في الجيش ورئيس فرع المعلومات في قوى الأمن، سواء عبر تثبيتهما، أو تعيين غيرهما.

من هنا، يشدّد هؤلاء على أنّ التعيينات الأمنية والعسكرية التي أقرّت، على أهميتها، ليست سوى "أول الغيث"، بانتظار سائر التعيينات، وخصوصا القضائية والإدارية، التي تشكّل "الامتحان الأكبر" للحكومة الجديدة، علمًا أنّ تحديد موعد لجلسة لمجلس الوزراء يوم الإثنين المقبل في السراي الحكومي، للاتفاق على "آلية" التعيينات الإدارية قد يكون مؤشّرًا إيجابيًا، ولو أنّ العبرة تبقى في الخواتيم، وتحديدًا في احترام هذه الآلية.

في النتيجة، قد يكون من المبالغة بمكان، الاعتقاد بأنّ العهد الجديد سيكون قادرًا على "الخروج عن المألوف"، وبالتالي "الثورة" على كلّ ما هو "مُكتسَب"، بين ليلة وضحاها، ولو رفع السقف لنفسه، حين تبنّى رياح "التغيير". إلا أنه قد لا يكون مُبالَغًا به أبدًا القول، إنّ "مهلة السماح" الممنوحة له، أو بالحدّ الأدنى لحكومته الأولى، ليست مفتوحة، وهي المقيّدة بعمر قصير، لن يسمح لها بالمماطلة، من هنا أو هناك!.