كُلُّهُمُ يُريدونَ أن يَكونوا لبنانَ.
مِنَ المُتَباهينَ بِتَشيِّيدِ الصُروحِ الإبراهيمِيَّةِ على رِمالِ الصَحارى، الى المُمتَهِنينَ التَطهيرَ طَوائِفِيَّةً. وَمِنَ المُتَنافِسينَ على التَقادُمِ بَينَهُمِ وَبَينَ الذَكاءِ الإصطِناعِيِّ ‒وَهوَ لَيسَ بِذَكاءٍ‒، الى المُتَقَلِّبينَ بَينَ النَوازِعَ الداخِلِيَّةِ المُستَفرَدَةِ والتَفَلُّتِ الخارِجيِّ المُستَفرِدِ.
كُلُّهُمُ يُريدونَ أن يَكونوا لبنانَ.
مِنَ المُتَباهينَ بالتَخويفِ مِنَ الآخَرِ، الى مُنَظِّري عَدَمِ التَخويفِ بِهِ. وَمِنَ المُتَعَمشِقينَ بِأمواجِ الثَوراتِ يَركَبونَها في ساحاتِ المُنازَلاتِ، الى المُرتَمينَ مِنها بِتَطيِّيفِ الُلعَبِ القاتِلَةِ، يَومَ تَطَرُّفُها يَجعَلُها الوَحيدَةَ لِبَقائِهِمِ... عَبرَ مُقاتَلَةِ "العَدوِّ الصائِلِ"، عَدوِّ الداخِلِ، بَعدَما أفتى جِهادُهُم وإستِجهادُهُم أنَّ الصِدامَ مَعَ الخارِجِ طَبعَةٌ قَديمَةٌ ما عادَت قابِلَةً لِلتَحديثِ.
كُلُّهُمُ يُريدونَ أن يَكونوا لبنانَ.
أَلِأَنَّ لبنانَ لا أُفولَ لَهُ، مِمَّا قَبلَ التاريخِ الى ما بَعدَ الأواتِيَ، وَهُم مِن مُناطَحَتِهِ لِكَسرِهِ الى التَناطُحِ بِاللامِعنى المَنسوخِ عَمَّا قَبلَ؟ أَلِأَنَّهُمُ، في صُنوفِ العَجزِ يَرومونَ الإنخِراط َفي العالَمِ بِإحياءِ المَواضيَ فيما يؤَبِّدونَ هَزائِمَ الحاضِرِ في الإستِنقاعاتِ الذاتِيَّةِ؟
يَزعَمونَ أنَّهُ مُستَتِرٌ فيهِمِ. وَهُم لَيسوا بِلبنانَ. ما كانوهُ يَوماً. وَلَن. لَن يَكونوهُ.
لَيسَ لبنانُ بِوَعيٍّ زائِفٍ وَلا زائِغٍ. هو وَحدانِيَّةٌ حَضارِيَّةٌ، مُتَنَوِّعَةٌ، مُتَعَدِّدَةٌ، تَجَدُّدُها مِن ذاتِها. قائِمٌ في الطُهرِ بَينَ عَربَدَتَينِ: الأولى ثَمَرَةُ مُقاوَلاتِ تَزيِّيفِ إبنِ خَلدونَ، بِتَكرارِ مَقولَتِهِ بِأنَّ نُهوضَ العَرَبِ لا يَكونُ إلَّا بِعَصَبِيَّةٍ دينِيَّةٍ... فَكانَ تَعميمُ الدينِ السياسِيِّ. والثانِيَةُ ثِمارُ مُغامَراتِ تَجذيفٍ على العَقلانِيَّةِ لا تَكونُ إلَّا بِتَكرارِ الإسفافِ في طُقوسِ عِبادَةِ الشَخصانِيَّاتِ المُتَألِّهَةِ... فَكانَت أعادَةُ تَدويرِ الإمبريالِيَّاتِ.
لبنانُ لا في السَلبِيَّةِ هو، وَما كانَ في التَواكُلِيَّةِ. هو في الروحِ، وَلَها، إيجابِيَّةُ التَفاعُلِيَّةِ. وَما خَشِيَ تَعاضُدَ هاتَينِ الثِقَتَينِ في تَشارُكِيَّةٍ فاعِلَةٍ بَينَ الأنا المُختَلِفِ عَنِ الآخَرِ، والآخَرِ المُختَلِفِ عَنِ الأنا.
الإيمانُ المُوَلِّدُ
لبنانُ المُستَتِرُ لَيسَ بِلبنانَ. والمُدَّعونَ أنَّهُ مُستَتِرٌ فيهِمِ، مُراؤونَ بَل كاذِبونَ. وأفظَعُ دَجَلِهِمِ أنَّهُمُ، بِعَنجَهِيَّةِ التَسَتُّرِ، يُريدونَ إخضاعَهُ لِتَبَعِيَّاتِ هَيمَناتِهِمِ الظاهِرَةِ كَتَراكُماتِ لُعبَةِ نَردٍ، هُمُ فيها وَرَثَةُ الأُلوهَةِ. وَما هُمُ إلَّا صَدىً لِفَراغِ ذَواتِهِمِ، وَقَد حَسَبوا أنَّ لَهُمُ عَدوَّاً، فإذا بِهِ الكامِنُ فيهِمِ مِن حِقدٍ على التاريخِ، وَبُناتِهِ وأواتيهِ.
لبنانُ الذي مِن لبنانَ وَلَهُ، إيمانٌ مُوَلِّدٌ لا إجتِرارُ إستِهلاكٍ لِإستِحواذِ سِلَعٍ. والإيمانُ لِكَي يَكونَ إيماناً هو رُكونٌ الى حَقيقَةِ الأُلوهَةِ وَحَقيقَةِ الإنسانِ، وَوثوقُ كُلٍّ مِنهُما بالآخَرِ حَدَّ تَبَدّي حَقيقَةِ الوجودِ إنتِماءً لا الى دينٍ بَل الى شُرعَةِ عَلاقَةٍ حُرَّةٍ. عَلاقَةِ حُبٍّ. والإيمانُ لِكَي يَكونَ مُوَلِّداً هو إفتِداءٌ مِن جِراحاتٍ حَدَّ تَبدّي حَقيقَةِ الجَوهَرِ شَجاعَةً. لا خُنوعاً وَلا خُضوعاً. لا إخضاعاً وَلا إستِعلاءً.
قُلتُ: لبنانُ المُستَتِرُ؟ بَل هو الساطِعُ أبَداً. ها أشِعيا يُنبِىءُ مُنذُ البَدءِ: "ألَيسَ عَمَّا قَليلَ يَتَحَوَّلُ لبنانُ جَنَّةً والجَنَّةُ تُحسًبُ غاباً؟ في ذَلِكَ اليَومِ يَسمَعُ الصُمُّ (...) وَتُبصِرُ عيونُ العُميانِ بَعدَ الدَيجورِ والظَلامِ. (...). لِأنَّ الظالِمَ قَد إنقَرَضَ والساخِرَ قَد فَنِيَ وَإستؤصِلَ جَميعُ الَذينَ يَسهَرونَ لِأجلِ الإثمِ. الَذين (...) يَنصُبونَ الفَخَّ لِمَن يَحكُمُ عِندَ البابِ وَيَستَميلونَ البارَّ بِأباطيلِهِمِ." (أشِعيا 29/17-21).
هوَذا لبنانُ اللامُتَناهيُ. المُستَنيرُ بالعِنايَةِ لِإيمانِهِ المُوَّلِدِ، والمُنيرُ بِها.
وَهُمُ في غياهِبِ النَكِراتِ يُداهِنونَ ذَواتَهُمَ قَبلَ غَيرِهِمِ. وَيَخونونَ غَيرَهُمِ قَدرَ ذَواتِهِمِ. في حُدودِ التَآمُرِ تَأريخُهُم، وَفي اللامَحدودِيَّةِ الأبعَدِ المَقامُ-الدَّوامُ، التَحقيقُ-الثُبوتُ، غَلَبَتُهُ.
*الصورة المرفقة مع النص من تصوير الراهب اللبناني الماروني الأب شادي بشارة