لم يكن السادس عشر من آذار 2025، مثله مثل أيّ يوم آخر بالنسبة إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي"، الذي اعتاد أن يخصّص هذا اليوم لإحياء ذكرى اغتيال زعيمه كمال جنبلاط عبر تلاوة الفاتحة، ووضع زهرة حمراء على الضريح، في تقليد سنويّ دأب عليه منذ سنوات طويلة، إلا أنّه هذا العام، اتّخذ منحى مختلفًا، وتحوّل إلى ما يشبه "الاستفتاء"، الذي توّج بإعلان "طيّ الصفحة"، من خلال شعار المناسبة "صبرنا، صمدنا وانتصرنا".
قد تكون الظروف التي رافقت الذكرى هذا العام، هي التي أعطتها هذه "الرمزية الاستثنائية"، ولا سيما أنّها الذكرى الأولى التي تأتي بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، وهو المتّهم بالوقوف خلف جريمة الاغتيال التي وقعت في العام 1977، في عهد الرئيس الأسبق حافظ الأسد، فضلاً عن أنها جاءت بعد عشرة أيام من إعلان السلطات السورية الجديدة توقيف المتهم المباشر بتنفيذ الجريمة، اللواء إبراهيم حويجة، ما عُدّ "انتصارًا للعدالة".
وإلى الظروف المرتبطة بالمناسبة مباشرة، والتي دفعت رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط إلى إعلان طيّ الصفحة، وإنهاء التقليد الطويل، تأتي الذكرى أيضًا في ظروف سياسيّة مختلفة ومفصليّة تمرّ بها المنطقة ككلّ، ومن ضمنها لبنان، حيث يسعى "البيك" إلى تثبيت "الزعامة"، خصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتي أحدثت متغيّرات هائلة في المشهد، لم تنضج معالمها النهائية بعد.
لكن أبعد من الشأن الداخلي، قد تكون "عين" جنبلاط على المنطقة والإقليم، وتحديدًا الساحة السورية، وبشكل أدقّ ربما على مستوى الساحة الدرزية، وذلك على وقع دخول اللاعب الإسرائيلي على الخط أخيرًا تحت شعار "حماية الأقليات"، وهو ما يتوجّس جنبلاط من أن يكون مقدّمة لتحقيق سيناريو "التقسيم"، ومن البوابة الدرزية تحديدًا، فأيّ رسائل يوجّهها في هذا السياق للقاصي والداني، وماذا عن "تحديات الصفحة الجديدة" إن جاز التعبير؟!.
يقول العارفون إنّ الرسائل التي انطوت على احتفال "الحزب التقدمي الاشتراكي" في الذكرى الثامنة والأربعين لاغتيال زعيمه كمال جنبلاط، تتقاطع خلف الشعار الذي اختاره الحزب لإحياء المناسبة، "صبرنا، صمدنا وانتصرنا"، وهو ما يمكن فهمه من أكثر من زاوية، سواء على مستوى "العدالة" في قضية كمال جنبلاط نفسها، أو على مستوى "صمود" الحزب رغم كلّ التحديات والصعوبات، أو حتى على مستوى المكوّن الدرزي بحدّ ذاته.
بالنسبة إلى الشقّ الأول، يبدو الموقف "الاشتراكي" واضحًا، فالعدالة تحقّقت أخيرًا، ولو بعد حين، و"بعد حين" هنا تشير إلى سنوات طويلة "صبر" فيها الحزب، رغم فداحة الجريمة التي ارتُكِبت، فكان صموده هو المقدّمة للانتصار، الذي لم يكن ممكنًا لولا انتصار الثورة السورية، التي ساندها جنبلاط منذ اليوم الأول، بعيدًا عن "الصيت" الذي يلازمه حول "انعطافاته" التي لا تنتهي، ولو أنّه كان "هادن" النظام في بعض المراحل السابقة.
وعلى أهمية هذا المعطى، فإنّ العارفين يؤكّدون أهمية الأبعاد الأخرى، فالانتصار هو انتصار العدالة، ولكنّه أيضًا انتصار لـ"الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي صمد رغم كلّ الصعوبات والتحديات والمشاكل، علمًا أنّ إصرار جنبلاط على أن تكون الذكرى "تاريخية" من حيث الحضور الشعبي بالدرجة الأولى، وقبل الحضور السياسي، يعطي رسالة واضحة بهذا المعنى، مفادها أنّ الحزب لا يزال قويًا، بل قد يكون في أقوى حالاته.
وبالتوازي مع هذا البعد، يحضر البعد المرتبط بالمكوّن الدرزي أيضًا، حيث يتقاطع "الشكل مع المضمون" هنا، في ضوء المرحلة "المصيرية" التي يمرّ بها الدروز في المنطقة تحديدًا، من بوابة الأحداث السورية تحديدًا، ومحاولات إسرائيل الدخول على الخط، مع تهديدها في الآونة الأخيرة بالتدخّل عسكريًا في سوريا "في حال المساس بالدروز"، قبل تنظيم زيارة لبعض رجال الدين الدروز إلى الداخل الإسرائيلي، ما أثار جدلاً واسعًا.
على هذه الأركان الثلاثة، اختار "الحزب التقدمي الاشتراكي" أن يغلق صفحة أساسيّة في تاريخه، هي صفحة اغتيال زعيمه كمال جنبلاط، ليفتح صفحة جديدة من "النضال والتحديات"، وفق قول وليد جنبلاط، وهي "تحديات" حاول الرجل مقاربتها خلال الاحتفال في المختارة، سواء فيما يتعلق بالوضع الداخلي اللبناني، الذي يسعى ليكون مقرّرًا على خطّه، أو ما يتعلق بالوضع الإقليمي العام، وخصوصًا من البوابة السورية.
ففي الشأن الداخلي، حدّد جنبلاط بوضوح العناوين الأساسية، ربطًا بالتطورات الناشئة عن الحرب الأخيرة، وفي مقدّمها "أهمية تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، ومتابعة ترسيم الحدود حفاظاً على السيادة اللبنانية وتطبيقاً للقرارات الدولية، كما إعادة إعمار الجنوب وباقي المناطق المتضررة جراء العدوان الإسرائيلي من خلال وضع آلية موثوقة عربياً ودولياً"، فضلاً عن الدعوة المتجدّدة إلى التمسّك "بالهوية العربية للبنان".
لكن ما قد يكون أهمّ في حديث جنبلاط الداخلي، يبقى التأكيد على " أهمية يوم المصالحة التاريخي برعاية البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في 3 أغسطس (آب) 2001، واعتبار هذا الحدث منطلقاً للعلاقات اللبنانية - اللبنانية فوق الانقسامات السياسية"، ما يعني وفق العارفين، أنّ أيّ حراك داخلي يمكن أن يخوض "الحزب التقدمي الاشتراكي" به في المرحلة المقبلة يجب أن يلتزم بهذا السقف بالدرجة الأولى، بل ينطلق منه عمليًا.
وإذا كان الحضور اللبناني "الجامع" في هذه الذكرى يعزّز الانطباع حول "أهداف" جنبلاط في المرحلة المقبلة، فإنّ الحرص على إظهار "عروبة وعولمة" الحزب في الذكرى، قد يؤشّر إلى أنّ ما يهمّ "الاشتراكي" عابر للحدود، وهو حرص على توجيه رسائل واضحة إلى دروز سوريا، لعدم السماح للبعض باستخدامهم كإسفين لتقسيم سوريا وباقي المنطقة، وذلك تحت شعار حماية الأقليات الذي استشهد كمال جنبلاط رفضًا له.
يقفل "الحزب التقدمي الاشتراكي" صفحة من تاريخه إذًا، لكنه يفتح صفحة أخرى من النضال والتحديات التي لا تقلّ شأنًا، صفحة قد يؤسّس لها الواقع الدرزي المستجدّ، والهواجس المتعاظمة ممّا يحاك لهم في سوريا تحديدًا، ولعلّ جنبلاط أراد في مكانٍ ما، أن يحوّل ذكرى اغتيال كمال جنبلاط إلى "استفتاء على الزعامة"، ليس على المستوى اللبناني بالضرورة، ولكن قبل ذلك على المستوى الدرزي، وهنا بيت القصيد!.