الحوار الَّذي دار بين الملاك ووالدة الإله (لوقا 1: 26-38) أعلن عن سرِّ الخلاص الإلهيِّ للبشر، سرِّ التجسُّد الإلهيِّ. إنَّه حوار فريد في تاريخ البشريَّة، لا سابقة له ولا يتكرَّر.

يدور الحوار بين أهل السماء متمثِّلين بالملاك جبرائيل، واسمه يعني «جبروت الله» أو «ألله جبَّار»، المرسل من القدُّوس، وأهل الأرض متمثِّلون بمريم العذراء، الفتاة العاشقة للربِّ والمخطوبة ليوسف البارِّ.

محور الحوار ابن الله. قبل الدخول في كلماته لا بدَّ لنا من القول إنَّ الحوار يُخرج المسيحيَّة من كلِّ تحديد بشريٍّ لها ويجعلها خارج أيِّ منظومة دينيَّة، وكلُّ خطوة نحو المسيحيَّة يجب أن تتمَّ حصرًا من خلال الإعلان الإلهيِّ الَّذي أعلنه الملاك لمريم، ومن خلال حبَلها الإلهيِّ بالروح القدس الَّذي جعلَها والدة الإله، ولا يمكن لأيِّ تقارُب نحو مريم أن يكون بمنأى عن هذه التسمية الاستثنائيَّة والخلاصيَّة.

لهذا، حدث البشارة هو رأس الأعياد المسيحيَّة وفيه نرتِّل: «اليوم رأس خلاصنا وإعلان السرِّ الَّذي منذ الدهور، فإنَّ ابن الله يصير ابن البتول، وجبرائيل بالنعمة يبشِّر، لذلك نحن معه فلنهتف نحو والدة الإله: افرحي أيَّتها الممتلئة نعمة، الربُّ معكِ».

بالعودة إلى كلمات الحوار، نجد فيها كلَّ الإيمان المسيحيِّ وتحقيق الوعد الخلاصيِّ الإلهيِّ للبشر. قال الملاك لمريم: «... ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابنَ العليِّ يُدعى... ولا يكون لمُلْكه نهاية».

تعجَّبت مريم وأجابته: «كيف يكون هذا وأنا لستُ أعرف رجلًا؟». جوابها هو تأكيد لقرارها بالبقاء مكرَّسة جسدًا وروحًا للربِّ. وما قولنا بأنَّها دائمة البتوليَّة إلَّا اعتراف بحالتها واحترام لقرارها وليس تحقيرًا للزواج – لا سمح الله - لأنَّ الزواج والإنجاب مقدَّس وباركه الله بنفسه عندما خلق آدم وحوَّاء: «وباركَهُم الله وقال لهم: أَثمِروا واكثُروا واملأوا الأرض» (تكوين 1: 28).

ويكمل الحوار فيحيبها الملاك: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوَّة العليِّ تُظلِّلُك، فلذلك أيضًا القدُّوس المولود منك يُدعى ابن الله».

واضح كلام جبرائيل وجليٌّ: «المولود هو ابن الله».

هنا الفرق، لا بل كلُّ الفرق. تجسُّد الله يأتي من فيض محبَّة الله اللامحدودة واللامتناهية للبشر. هو طبعًا بقي إلهًا وأصبح إنسانًا مثلنا ما خلا الخطيئة لكونها دخيلة على الطبيعة البشريَّة.

وعبارة «ابن» تشير إلى الجوهر الإلهيّ الواحد للَّه الآب والله الروح القدس، وثلاثتهم إله واحد. أمام الحدث الاستثنائيِّ والعظيم أتى جواب مريم للملاك: «هوذا أنا أمَة الربِّ. ليكن لي كقولكَ».

كلمة أمة تعني عبدة، ولكن لا استعبادًا لأنَّه ليس عند الله عبوديَّة. فالكلمة تعني أن لا سيِّد في حياة مريم إلَّا الربُّ، وسيادته حرِّيَّة مطلقة لأنَّها محبَّة مطلقة. وهذا ما جعل بولس الرسول يقول بفخر: «بولس، عبدٌ ليسوع المسيح، المدعوُّ رسولًا، المُفرَز لإنجيل الله» (رومية 1: 1). وهو نفسه الَّذي قال: «حيث روح الربِّ هناك حرِّيَّة» (2 كورنثوس 3: 17). قد يكون قوله الأخير أتى في السنة ذاتها لكتابته للرسالة إلى أهل رومية، أي في العام 57 م، أو قبل سنة إذا اعتبرنا أنَّ الرسالة إلى رومية كانت في العام 58 م. وهذا تأكيد آخر على أنَّ بولس أدرك يقينًا أنَّه لكي يكون عبدًا للربِّ فهذا معناه أن يكون حرًّا من كلِّ سطوة الخطيئة.

بالعودة إلى حدث البشارة، فهو كان تحقيقًا للوعد الإلهيِّ بالخلاص الَّذي أعطاه الربُّ للإنسان بعد سقوط آدم وحوَّاء بسبب انصياع حوَّاء لكلام الشيطان المتمثِّل بالحيَّة، وتَبِعَها آدم في ذلك.

الوعد كان بكلام الربِّ للحيَّة: «وأضَعُ عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنتِ ترصدين عقِبَه» (تكوين 3: 15).

نسل المرأة هو يسوع الإله المتجسِّد (غلاطية 3: 16). الإله الَّذي سحق رأس الشيطان على الصليب بانتصاره على الموت، ونزل إلى عمق دركات الجحيم وفجَّرها. ولحسة الحيَّة هي لدغة، وهذا الأمر تحقَّق بموت يسوع بطبيعته البشريَّة على الصليب.

لهذا، مريم العذراء هي "المرأة" الَّتي أتى منها الخلاص، وهي حوَّاء الجديدة.

هذا هو حدث البشارة الَّذي تمَّ فيه التجسُّد الإلهيُّ في أحشاء المرأة النقيَّة والطاهرة، المصغية إلى كلام الربِّ والمتواضعة، وهكذا تحقَّقت نبوءات الأنبياء في العهد لقديم بمجيء المخلِّص، وكان خاتمتهم يوحنَّا المعمدان الَّذي شهد قائلًا: «أنا قد رأيت وشهدت أنَّ هذا هو ابن الله» (يوحنَّا 1: 34).

ختامًا، في البشارة أصبحت مريم والدة الإله، والكنيسة تعيِّد لميلادها ودخولها إلى الهيكل ورقادها لكونها والدة الإله، وعلى هذا الأساس، فكلُّ الصلوات الَّتي تتعلَّق بها منذ القرون الأولى للمسيحيَّة تتوجَّه إلى مريم باسم والدة الإله، كذلك الفن الإيقونغرافيُّ الَّذي يظهر مريم حاملة الربَّ يسوع المسيح باستثناء مناسبات خاصَّة جدًّا ومحدودة جدًّا.

هذا ما حافظنا عليه على مرِّ الأجيال ومستمرُّون به، فعبارة "والدة الإله" تأكيد على أنَّ يسوع هو الربُّ المتجسِّد المخلِّص والفادي، وهو التكريم الحقيقيُّ لشخصها، وغير ذلك هرطقة ما بعدها هرطقة.

إلى الربِّ نطلب.