أعمال الله عظيمة في كل خلائقه، فقد دبّرها بحكمة، وجعلها تنطق بمجد خالقها. كل ما في الكون صُنع بيديه ليكون معينًا للإنسان، فيتمتع بجمال الخليقة، ويهتدي من خلالها إلى نور الخالق: "مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ" (مزمور ١٠٣: ٢٤).

خلقتَ، يا الله، الإنسان وسلطته على كل المخلوقات، ومع ذلك، لم تتركه في سقوطه، بل منحته فرصة جديدة، كما منحتنا في مريم بابًا للخلاص، وصورةً للوداعة والاتضاع.

هي أمّنا جميعًا، سيدتنا وفخر جنسنا، الملكة القائمة عن يمين الملك، العذراء الدائمة البتولية، المملوءة نعمة، الأم الحانية، المعينة الرحيمة، أمّ النور والرحمة والخلاص، الكرمة الحقانية التي حملت ثمر الحياة للعالم.

لقد عظّم الله المرأة في شخص مريم، إذ اختارها لتحمل الكلمة الأزلي في أحشائها، فكان اختيارها تدبيرًا إلهيًّا، لا صدفةً عابرة، لأنها امتلكت من الفضائل ما جعلها مستحقة لهذا الشرف الفائق.

مريم، التي منها تجسّد الفادي، تزيّنت بفضائل لا تُحصى، لكن تاجها كان التواضع والوداعة، إذ قالت: "لأنه نظر إلى اتضاع أمته" (لوقا ١: ٤٨).

لم يكن تواضعها ضعفًا، بل جاء قوةً مستترة، صانتها من كبرياء العالم، فاحتملت الكرامة دون أن تتعالى، وسارت في درب الألم دون أن تتذمّر. إذ يظن البعض أن احتمال الآلام أمرٌ شاق، لكن احتمال الكرامة أصعب، لأن القلوب الضعيفة تنتفخ بالمجد، أما القلوب الطاهرة فتزداد اتضاعًا.

أنكرت ذاتها، وأفنَت حياتها في خدمة الآخرين، وسلّمت أمرها لله بإيمان لا يعرف الشك: "طوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب" (لوقا ١: ٤٥).

إيمانها كان نقيًا كالماء الرقراق، لا يعكّره تردّد ولا اضطراب: "ليكن لي كقولك" (لوقا ١: ٣٨).

إيمان بلا خوف، لأن محبتها لله كانت كاملة، فطردت كل ارتياب بعيدًا عن قلبها. لأجل هذا، ستظل الأجيال تُطوّبها، إذ لم تكن مريم مجرد امرأة صالحة، بل أعظم امرأة وُجدت على هذه الأرض: "فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوِّبني" (لوقا ١: ٤٨).

في عيد الأمّ، وعلى مشارف عيد بشارة العذراء مريم، أوجّه دعوة إلى كل أمّ أن تنظر إلى مريم لا كقديسة بعيدة، بل كأيقونة يُحتذى بها، في تواضعها وإيمانها ووداعتها وخدمتها.

ما أعظم الأمومة حين تُبارَك! فالأمّ ليست عنوانًا في الحياة، بل هي الحياة نفسها. هي الحضن الدافئ الذي يحتوي أبناءها قبل أن يعيوا العالم، وهي الهواء النقي الذي يتنفسونه ليكملوا مسيرتهم، وهي الملجأ حين تشتد العواصف، والأمان حين تضيق الدنيا.

وهب الله قلب الأمّ محبةً لا تعرف الحدود، ورغبةً متقدة في العطاء دون انتظار مقابل. الأمّ التقية تواجه مشقات الحياة بصمت، لا تسأل عن تعبها، ولا تئن من حملها، بل تضع كل شيء بين يدي الله. حبها نقاءٌ لا تشوبه أنانية، وغفرانها بحرٌ يبتلع الأخطاء، كمن يكتب على الرمال، فتأتي الأمواج وتمحو ما كان.

نعم، الأمّ هي أنشودة السكينة وسط ضجيج الأيام، وهي سفينة الأمان حين تهب رياح الحياة. قد تكون كلمة "أمّ" قصيرة، لكن معناها يمتد من الأرض إلى السماء، حيث الحبّ والحنان، والتضحية بلا مقابل.

ومهما قلنا، نبقى مقصّرين...

كم تمنيتُ أن أقول هذه الكلمات لأمي وهي ما زالت على هذه الأرض، لكنني أرجو أن تصل إليها الآن، في مسكنها السماوي. التضحية، يا أمي، كنزٌ ثمين، لا يقدر عليه إلا قلب الأم. فطوبى لمن استطاعت أن تصير على مثال مريم، عظيمة العطاء، عظيمة الإيمان، عظيمة الحب.

إلى كل أمّ، تذكّري أنكِ لستِ مجرد امرأة تعيش، بل روحٌ تحيي، وقلبٌ يزرع في الأرض بذور الخير والحبّ. الأمّ ليست مجرد دور في الحياة، بل رسالة سماوية مقدّسة، وأيقونة خالدة للعطاء.

وأختم بكلمات الأب رامي ونّوس: "يا رب، بارك قلبها، احفظه من الحزن، واملأه سلامًا كما ملأت حياتنا حبًّا. وإن كانت قد أغمضت عينيها ورحلت، فلتكن بين يديك، كما كنّا نحن بين يديها."

ليكن عيدكنَّ مباركًا، مملوءًا بالنور والنعمة!.