لعلّ السجال بين "حزب الله" ووزير الخارجية يوسف رجّي، جاء "متأخّرًا"، برأي كثيرين، ممّن توقّعوا مثل هذا "الكباش" منذ اللحظة التي أعلِن فيها عن إسناد حقيبة الخارجية والمغتربين إلى حزب "القوات اللبنانية"، وإن مرّ الأمر حينها بسلاسة غير معهودة، وربما غير مفهومة أيضًا، نظرًا لحساسيّة هذا الموقع بالنسبة إلى "حزب الله"، الذي يقال إنّ اسم وزير الخارجية كان يمرّ دومًا من خلاله، حتى ولو كان محسوبًا على أحزاب حليفة أو صديقة.

بعد ذلك، جاءت المقابلة التلفزيونية الأولى للوزير يوسف رجّي لتثير جدلاً واسعًا في أوساط الحزب، فالرجل أعلن فيها صراحةً عن انتمائه إلى "القوات"، بل استرجع بكلّ حماسة "دوره كمقاتل" إبان الحرب اللبنانية، ما دحض الفرضية القائلة بأنّ "القوات" تبنّت الاسم المطروح من قبل رئيس الحكومة نواف سلام، على الأقلّ بما يتعلّق بشخصه، بمعزل عن الحقائب الأخرى التي نالتها "القوات" في حكومة العهد الأولى.

بقي الحزب على صمته، أو ربما على "نأيه بالنفس" عن تصريحات الوزير، إلى أن صدر عنه في الأيام الماضية ما "أحرجه" داخل بيئته الحاضنة وبين ناسه الذين سبقوه إلى الاعتراض، ومن جملة ما قال إنّ "حزب الله" يتنصّل من تنفيذ مندرجات اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يحدد المجموعات المسموح لها حمل السلاح، وهو موقف يتبنّى في مكانٍ ما سرديّة "القوات" حول نزع سلاح الحزب، بالمُطلَق، ولكن بطابع رسميّ هذه المرّة.

إزاء ذلك، خرج الحزب عن صمته، فأطلق على لسان عضو كتلته البرلمانية النائب إبراهيم الموسوي بيانًا رافضًا لتصريحات وزير الخارجية، التي "تعطي العدو تبريرًا لاعتداءاته وصك براءة ‏مفتوح للمضي في إجرامه"، على حدّ وصفه، مع دعوة للحكومة إلى تصحيح هذه التصريحات "التي تشوّه الحقائق وتضرّ بالمصلحة الوطنية"، فأيّ آفاق لهذا الكباش المستجدّ بين وزير الخارجية و"حزب الله"، وكيف يمكن للحكومة التي تجمعهما تجاوزه؟!

في المبدأ، يعكس الكباش المستجدّ بين "حزب الله" ووزير الخارجية، "تناقضًا" موجودًا داخل الحكومة، التي يبدو أنّ رئيسها لم ينجح في تكريس "الانسجام" بين أعضائها، وهو الذي قال مرارًا وتكرارًا، إنه يرفض نماذج حكومات الوحدة الوطنية التي تحوّلت عمليًا إلى حكومات "شلل وطني"، ولو أنّ الاستحقاقات الأولى أوحت بالقفز فوق الخلافات، وأهمّها البيان الوزاري الذي لم يشهد تعقيدات كتلك التي كان يشهدها في حكومات سابقة.

إلا أنّ العارفين يردّون ذلك إلى طبيعة المرحلة، المختلفة عمّا سبق، فما ترتّب على الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان فرض معادلات متغيّرة، جعلت "حزب الله" مثلاً يقبل بما كان يرفضه سابقًا، ومنها مثلاً خلوّ البيان الوزاري من عبارة "مقاومة"، فضلاً عن "صمته" على تسمية وزير "قواتي" للخارجية، من دون أن ننسى "إقصاء" حلفائه عن المشاركة، بذريعة شبه مُعلَنة، هي "منع" حصول الحزب مع أصدقائه على الثلث المعطّل.

بهذا المعنى، يمكن قراءة موقف "حزب الله" والوزير رجّي، استنادًا إلى الانتماء السياسي، فوزير الخارجية حين يقول إنّ "حزب الله" هو الذي تسبّب بالحرب المدمّرة على لبنان، وبكلّ ما ترتّب عليها من دمار وتهجير، وحين يقول إنّ الحزب يتنصّل من تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي ينصّ على سحب السلاح، وليس فقط على نزع المظاهر المسلحة جنوب الليطاني، يعبّر في مكان ما عن قناعاته الواضحة، التي لا يخفيها كما لا يخفي انتماءه إلى "القوات".

وهكذا، يمكن القول إنّ الوزير رجّي يعكس في تصريحاته المثيرة للجدل، الموقف المعلن لحزب "القوات اللبنانية" الذي يتعامل مع "حزب الله" منذ الحرب الأخيرة بوصفه "مهزومًا"، وهو يدعوه صراحة للإقرار بهذه الهزيمة، وتسليم سلاحه بالكامل، بما يلبّي الشروط الدولية المنصوص عليها في القرارات الدولية، وآخرها القرار 1701، فضلاً عن اتفاق وقف إطلاق النار، ولو لم يطّلع اللبنانيون على حيثيّاته وتفاصيله بالكامل.

في المقابل، يجد "حزب الله" أنّ خطاب الوزير رجّي "يتناقض" مع سرديّة الدولة اللبنانية، التي يفترض به الالتزام بها، والتي تقول إنّ لبنان ملتزم باتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل بالكامل، وأنّ إسرائيل هي التي تخرقه بصورة يومية، وإنّ المطلوب الضغط عليها لإجبارها على الانسحاب من الأراضي اللبنانية، وهو موقف عبّر عنه بصراحة الاجتماع الثلاثي الشهير في قصر بعبدا بين رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب.

بالنسبة إلى الحزب، فإنّ المشكلة في خطاب وزير الخارجية، أنه يمنح إسرائيل "صكّ البراءة" الذي تريده، ويعطيها التبرير لجرائمها، باعتبار أنّ "حزب الله" هو الذي يتنصّل من اتفاق وقف إطلاق النار، ما يعني انّ "حرية الحركة" المزعومة التي تتمسّك بها "مشروعة"، طالما أنّ أرفع مسؤول دبلوماسي لبناني يقول إنّ لبنان يخرق الاتفاق، على الرغم من أن الحزب لم يردّ على الخروقات الإسرائيلية منذ أشهر، حتى لا يوضَع في الخانة نفسها مع إسرائيل.

وبين موقف الوزير رجّي وموقف "حزب الله"، تُطرَح أسئلة كثيرة عن الانعكاسات على الحكومة التي تجمعهما، وعن التضامن الوزاري الذي يبدو أنّه "مفقود"، ولكن أيضًا عن السياسة الحقيقية للحكومة، خصوصًا أنّ "حزب الله" دعا الحكومة إلى تصريحات وزير الخارجية، فهل يعني ذلك أنّ الحكومة تتبنّى سرديّة "الحزب"، وأنّ وزير الخارجية هو الذي يخرج عليها، وهل توضح الحكومة هذا الموقف رسميًا؟!.

هنا أيضًا يبدو الأمر "وجهة نظر"، فبالنسبة إلى "حزب الله"، لا جدال في أنّ وزير الخارجية هو الذي يخرج عن السياسة الرسمية للدولة اللبنانية، والتي تجلّت بوضوح في البيان الوزاري للحكومة، وفي مواقف كلّ المسؤولين الذين يدعون الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، لممارسة الضغوط على إسرائيل من أجل إرغامها على إنهاء خروقاتها، وهو ما يعني ضمنيًا أنّ لبنان ملتزم بالاتفاق بالكامل.

في المقابل، يعتبر المحسوبون على الوزير والمؤيدون له، أنّ سرديّة "حزب الله" لا تستقيم، ليس فقط لأنّ البيان الوزاري حصر مبدأ المواجهة بالدولة، من دون أيّ إشارة إلى المقاومة، ولكن قبل ذلك لأنه تلاقى مع خطاب القسم على منطق "احتكار الدولة للسلاح"، وهو ما لم يلتزم به الحزب، حتى إنّ أمينه العام الشيخ نعيم قاسم اعتبر في أحد تصريحاته أنّ "الحزب" ليس معنيًا بهذا الكلام، وأنّه غير موجَّه إليه.

هي تناقضاتٌ يبدو من الصعب إحالتها إلى خطاب قسم، أو بيان وزاري، أو غيرها من الوثائق التي يفصّلها كلّ طرف على مقاسه، وبما يناسب أهدافه. من هنا، قد يكون من المبالغ به الاعتقاد بأنّ سجال وزير الخارجية و"حزب الله" هو مجرد كباش "عابر"، ناجم مثلاً عن "سوء تفاهم"، ولكنه يؤكد في مكان ما، أنّ حكومة "الإنقاذ والإصلاح" لم تشذّ عن قواعد من سبقوها، فأثبتت كونها "حكومة تناقضات" من الأيام الأولى!.