لَيسَت الرِقَّة ضُعفاً. وَلبنانُ ما كانَ يَوماً ضَعيفاً.

أن يَكونَ لبنانُ الرِقَّةَ يَعني أنَّهُ الوَطَنُ المُتَقَبِّلُ سِرَّ الحَياةِ. الداخِلُ إلَيهِ بِحِكمَةٍ أمومِيَّةٍ، والمُهَيِّءُ لِلإنعِتاقِ مِنَ الضُعفِ بِنِعمَةِ الأُبوبِيَّةِ.

ألبنانُ أُمٌّ وَأبٌ في آنٍ؟ بَل غايَةٌ وَحَدٌّ مِن أنِيَّةِ الخُطوَةِ الأُولى لِلحَياةِ. تِلكَ فَضيلَتُهُ، وَهوَ نَمَّاها على مَدى ألفِيَّاتٍ مِن حَقيقَةٍ شَكَّلَها قُوَّتَهُ المُتَفَرِّدَةُ بَينَ أُمَمِ التاريخِ وإندِفاعاتِها. تِلكَ فَضيلَتُهُ، وَهوَ أعتَقَ بِها كُلَّ حُضورٍ لِيَكونَ عَطِيَّةً. وَما العَطِيَّةُ؟ ألَيسَت تَجديدَ الوَعي في اليَقينِ؟ ألَيسَت عِصمَةَ البُسَطاءِ في مُواجَهَةِ غَطرَساتِ مُدَّعي القُوَّةِ.

ذاكَ هوَ الإيمانُ. وَلبنانُ، مُذ كانَ، تَظَهَّرَ بالطاعَةِ لِمَخلوقِيَّتِهِ، مؤمِناً بِهِبَةِ العَطِيَّةِ... لِذاتِهِ وَلِلعالَمِ. وَمِن دونِ التَظاهُرِ بالرُكونِ الى تأمُلِيَّاتٍ لِمواجَهَةِ المُعاناةِ، أعطى ذاتِيَّتَهُ عَلامَةَ الحِكمَةِ الَتي، حَتَّى في ظَلامِيَّةِ تِغيِّيبِ اللهِ، وَصَمتِهِ، تَبقى مُوَلِّدَةَ النورِ.

أجَل! لبنانُ الرِقَّةَ في ذُروَةِ ماهِيَّةِ الرِقَّةِ، هو دَفقُ الفَرَحِ الحَقيقِيِّ، الفَرَحِ المُحيّي، في ذُروَةِ صَمتِ اللهِ، وَتَغيِّيبِهِ. في ذُروَةِ غُربَةِ الإنسانِ، وَعَذابيَّاتِهِ. في عُمقِ أعماقِ الهُوَّةِ حَيثُ، هُما، في دراماتيكِيَّةِ المُعاناةِ التَبادُلِيَّةِ، وَغَورِها في إنعِدامِ المِعنى.

المِعنى! ذاكَ الإرتِواءَ اللاهِثَ بَينَ الجُذورِ والتَعقيدِ. وَهوَ أعمَقُ مِنهُما. أمِن مَفارَقَتِهِ إثارَةُ القَلَقِ؟ لا! لَيسَ لبنانُ مُثيراً لَهُ وَلا مُستَثاراً بِهِ. فِدائِيَّةُ لبنانَ، أنَّهُ بالرِقَّةِ أخَذَ على عاتِقِهِ آلامَ الجَميعِ... لِيُخَلِّصَ الجَميعَ مِنها. هوَ لبنانُ الرِقَّةَ: لبنانُ... ألمِن أجلِ. قُلّ: ذاكَ هوَ السَلامُ أليُعطيهِ. سَلامُ ضياءِ القيامَةِ... لا ذاكَ السَلامَ الإستِغلالِيَّ المُستَغِلَّ، سَلامُ الأخذِ أليُعطيهِ العالَمُ.

أجَل! ذُروَةُ ماهِيَّةِ الرِقَّةِ في لبنانَ الرِقَّةِ، هيَ خِدمَةُ الإتِّباعِ الكامِلِ لِفِداءِ الفِدائِيَّةِ. ما بِهِ يَخلُصُ ما هَلِكَ. أهوَ إستِدعاء القبول للعطاء؟ ذا الفِداءُ لا يَنتَظِرُ قَبولاً، لِأنَّ إلتِزامَهُ نَحوَ الأعلى لا نَحوَ الأسفَلِ. هوَ المُثابَرَةُ المَفتوحَةُ كَما اللهُ الفاتِحُ ذِراعَيهِ لِخَليقَتِهِ. قُلّ بَعدُ: هوَ لبنانُ "يَتَحَوَّلُ" الى اللهِ والإنسانِ... بِتَواصُلِ الإستِمرارِ. وَجوابُهُ، إزاءَ قَلَقِ أيٍّ مِنهُما تِجاهَ الآخَرِ... سؤالٌ: ألَستُ هُنا الآنَ، أنا؟.

عِصمَةُ الحَياةِ

في عالَمِ الفَوضى المُطلَقَةِ وَتَعَبقُرِ مَواهِبَ الإخضاعِ والإفناءِ، لبنانُ وَحدَهُ مَلجَأُ الحَياةِ وَعِصمَتُها.

أهوَ إنجيلُ الحَياةِ المَفتوحِ لِتَعَهُّدِ المُرذَلينَ لِسَطوَةِ الظُلُماتِ؟ بُشرى الحَياةِ الغالِبَةِ كُلَّ مَغلوبِيَّةِ؟ إعتِرافُ الحُضورِ في المَقصِيِّينَ عُنوَةً عَن نِعمَةِ الوجودِ؟.

أن يَبتَغِيَ، مُذ كانَ، عِصمَةَ الحَياةِ، أيّ أن يَحياها بِكُل جَوارِحِهِ، مُحَقِّقاً في ذاتِهِ بَذلَ نَفسِهِ لِيَشفى العالَمُ... مِن جَراحاتِهِ، تِلكَ لا لامُتَناهِيَةُ آفاقِهِ فَحَسبَ، بَل باكورَةُ فِعلِ مَشيئَتِهِ. وَمَن يَنتَميَ إلَيهِ، شَغَفاً هَكَذا، هوَ الأَوَّلُ في تَرتيبِهِ، بالنَظَرِ لِسَخاءِ عِناقِ الحَياةِ في عِصمَتِها. مِن كُلِّ جانِبِ إباءٍ. بالجَسَدِ والنَفسِ والروحِ.

ألَيسَ الفَيلَسوفُ، المُؤَرِّخُ، الرَحَّالَةُ، المُستَشرِقُ، والسياسِيُّ الفَرَنسِيُّ قُسطَنطينُ فرنسوا ڤولني، مَن إندَهَشَ، في القَرنِ الثامِنَ عَشَرَ، حينَ شاهَدَ لبنانَ، عَلى صِغَرِ مَساحَتِهِ وَوعورَةِ أرضِهِ، يَغُصُّ بِأبنائِهِ، فَشَهِدَ صارِخاً: "كَيفَ لَنا تَفسيرَ هَذا الرَخاءَ في أرضٍ ضَيِّقَةِ كَهَذِهِ؟ إنِّي لا أجِدُ مِن سَبَبٍ لَهُ، بَعدَ التأمُّلِ والتَفكيرِ، إلَّا شُعاعُ الحُرِيَّةِ الساطِعِ فيهِ".

شُعاعُ الإباءِ المَلموسِ. قَوَّةُ اليَقظَةِ! ثِقلُ الثِقَةِ!

هوَذا لبنانُ العَذراوِيُّ: لبنانُ الرِقَّةُ-الأُمومِيَّةُ-الأَبَوِيَّةُ.

الرِقَّةُ المُفدِيَةُ الأولى. قَلبُ العالَمِ وَعَقلُ أجيالِهِ. المِصدَرُ. هِدايَةُ الإستِثنائِيَّةِ اللاتَنضُبُ. والأُمَمُ الأُخَرُ حَيرى بَينَ غِواياتِ الطُغيانِ وَتيهِ الغَباءِ.