منذ انتهاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وُضِع ملف "نزع سلاح حزب الله" على الأجندة السياسية الداخلية، في العلن وليس همسًا كما في السابق، حيث بدا أنه لم يعد من "التابوات" إن صحّ التعبير، وذلك على وقع ضغوط غربية، وخصوصًا أميركية وإسرائيلية، تذهب لحدّ الحديث عن "جدول زمني محدّد" لإنجاز "المهمّة"، وقد وجدت أصداءها لدى الكثير من القوى السياسية المحلية.

ثمّة من يفسّر الأمر على طريقة "استغلال" الوضع الذي نشأ عن الحرب الإسرائيلية الأخيرة، التي لم يعد "حزب الله" بعدها الفريق الأقوى في الداخل، وصاحب الكلمة الفصل في الدولة، وهو ما تُرجِم سريعًا في مختلف الاستحقاقات السياسية التي تلت الحرب، من الانتخابات الرئاسية التي وجد الحزب نفسه فيها منخرطًا في تسوية على مرشح كان مرفوضًا منه، إلى رئاسة الحكومة، التي جاءت نتيجتها "مخالفة" لترشيحات الحزب.

وثمّة من يعطي الأمر أبعادًا أكبر، ربطًا بالإصرار الإسرائيليّ على تغيير "خريطة" الشرق الأوسط بالكامل، وذلك لا بدّ أن يمرّ عبر نزع سلاح "حزب الله"، علمًا أنّ استمرار الخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية، من دون ردّ من الجانب اللبناني، يهدف ضمن جملة ما يهدف إليه، إلى وضع الحزب تحت الأمر الواقع، فالقرار اتُخِذ، والسلاح لا بدّ أن يُسحَب، وهو ما أبلغته المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس للمسؤولين اللبنانيين في زيارتها الأخيرة.

وبالفعل، تكرّرت التصريحات "الرسمية" بعد زيارة أورتاغوس عن الأمر، فرئيس الجمهورية جوزاف عون يؤكد مضيّه في مسار احتكار الدولة للسلاح، ولو تحدّث عن حوار للوصول إلى ذلك، ورئيس الحكومة نواف سلام يشدّد من جهته، على موضوع بسط سلطة الدولة وحصريّة السلاح، وفق ما جاء في البيان الوزاري، ولكن ماذا عن موقف "حزب الله"، الممثّل بصورة أو بأخرى في الحكومة، وهل يوافق فعلاً على نزع سلاحه؟!.

حتى الآن، لا موقف رسميًا من جانب "حزب الله" على الموضوع، رغم الضجّة المكثّفة بشأنه، ما عدا بعض التصريحات "العامة"، ربما باستثناء ما نقلته وكالة "رويترز" عن مسؤول في الحزب، وصفته بـ"الكبير" من دون تسميته، حيث قال إنّ الحزب "مستعدّ" لمناقشة مسألة سلاحه في سياق استراتيجية دفاع وطني، لكنّه لفت إلى أنّ ذلك يتوقف على انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس التي تحتلّها في جنوب لبنان، وبالتالي إنهاء عدوانها على اللبنانيين.

ويأتي ذلك على وقع بدء التحضيرات لمحادثات ينوي الرئيس جوزاف عون إطلاقها بشأن السلاح، بحسب ما نقلت وكالة رويترز عن ثلاثة مصادر سياسية لبنانية أيضًا، علمًا أنّ رئيس الجمهورية سبق أن أعلن عن هذه النيّة، منذ تعهّده في خطاب القسم باحتكار الدولة للسلاح، وهو كرّر الأمر بعد زيارة أورتاغوس الأخيرة إلى لبنان، حيث قال إنّ نزع السلاح هو "مطلب لبناني"، لكنه أشار إلى أنّ تنفيذه سيتمّ "بالحوار والتواصل".

ويقول العارفون إنّ عوامل عدّة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ موضوع السلاح وُضِع على النار فعلاً، بدليل الانفتاح الذي يبديه "حزب الله" إزاءه، بمعزل عن مدى جدّيته، بعدما كان في السابق يسخر من أيّ كلام في هذا السياق، إلا أنّ الحزب يدرك أنّ وضعه اليوم ما عاد كما كان قبل الحرب الأخيرة، وتحديدًا قبل اغتيال أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، حتى لو استمرّ بالتلويح بالعودة إلى "الخيارات السابقة" في حال استمرار الخروقات الإسرائيلية.

ووفقًا لهؤلاء، فإنّ الضغوط الغربية الشديدة التي تُمارَس على لبنان تجعل طرح مسألة السلاح على الطاولة، وعلى الأجندة، أمرًا بديهيًا، علمًا أنّ هذه الضغوط وصلت إلى حدّ الحديث عن "جدول زمني" لنزع السلاح، حتى إنّ المرونة التي أبدتها المبعوثة الأميركية في زيارتها الأخيرة، وصفها كثير من المتابعين بأنّها "مؤقتة"، وبالتالي فهي بمثابة "مهلة ضغط" ليس إلا، علمًا أنّها ستعود قريبًا، وربما بعد عيد الفصح، حيث تتوقع الحصول على إجابات.

أكثر من ذلك، ثمّة انطباع بات راسخًا لدى كثيرين بأنّ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان لن تتوقف، إذا لم يتمّ نزع سلاح "حزب الله"، فإذا كان صحيحًا أنّ ثمّة هدفًا أميركيًا وإسرائيليًا بالذهاب إلى مفاوضات مع لبنان، وصولاً ربما إلى حد "تطبيع" العلاقات معه، فإنّ نزع السلاح يبقى "البوابة" لكلّ ذلك، وحتى لفتح النقاش بشأنه، علمًا أنّ الغرب يدرك المحاذير الكبيرة التي لا تزال تحول دون مضيّ لبنان في هذا المسار، أقلّه في الوقت الحالي.

إزاء كلّ ما تقدّم، ثمّة من يسأل عمّا إذا كان "حزب الله" فعلاً بوارد الدخول في نقاش حقيقي حول نزع سلاحه، علمًا أنّ كلّ ما يصدر عنه بشكل رسمي حتى الآن لا يوحي بذلك، ولو أبدى انفتاحًا نسبيًا على نقاش استراتيجية وطنية دفاعية يكون السلاح جزءًا منها، علمًا أنّ هناك من يدرج خطابه هذا في خانة "ضرورات المرحلة" التي تملي عليه بعض الأمور، التي تخرج عن "ثوابته"، ريثما ينتهي من مراجعة دروس الحرب الأخيرة، ويستعيد عافيته.

من هنا، يقول العارفون بأدبيّات الحزب، إنّ "نزع السلاح" يتطلّب مقوّمات وشروطًا لا تزال غير مكتملة بعد، ومنها انتهاء الخطر الإسرائيلي بالكامل، إذ من غير الممكن للحزب، أو حتى للبنان، أن يتخلّى عن "مصدر قوته" من دون "ثمن مقابل"، وفي ظلّ استمرار التهديدات والأطماع الإسرائيلية غير الخافية على أحد، خصوصًا مع تكرار الحديث دائمًا عن حدود "إسرائيل الكبرى" المفتوحة على أكثر من دولة، من بينها لبنان.

وإذا كان صحيحًا أنّ التنازلات غير البسيطة التي قدّمها "حزب الله" منذ انتهاء الحرب الأخيرة، يمكن أن تتوّج بـ"التنازل الأكبر"، عبر الذهاب إلى نزع السلاح بصورة جذرية، فإنّ العارفين بأدبيات الحزب يعتقدون أنّ مثل هذا الاستحقاق يبقى مؤجَّلاً، في قاموس الأخير، خصوصًا أنّ الأخير يرفض "تسليم رأسه" إن صحّ التعبير، وهو الذي يشعر أنّه "مُحاصَر" من كلّ جوانب الحدود، ليس في الجنوب فحسب، بل في الشرق أيضًا، وبعد قطع كلّ طرق إمداده.

في النتيجة، يمكن القول إنّ "بازار" نزع سلاح "حزب الله" قد فُتِح رسميًا، وربما بـ"مباركة" الأخير، الذي يقرّ بتغيّر طرأ على وضعه بعد الحرب الأخيرة، إلا أنّ "فتح البازار" لا يعني "إغلاقه" بالضرورة، فكلّ المعطيات تؤكد أنّ الأمر لن يكون بهذه السهولة، وسط هواجس حقيقيّة من أيّ محاولات لفرض هذا الاستحقاق بالقوة، ما يمكن أن يأخذ البلاد إلى مجهول، يبدو أنّ القيادة الحالية تدركه بصورة أو بأخرى!.