يبدو بكثير من الوضوح ان ما هدد به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد بدأ بتنفيذه، وهو عازم على متابعته بكثير من الإصرار، خصوصاً في ما يخص التعرفات الجمركية والتي بلغت حدها الأقصى مع الصين. ولكن ما سبب خوف العالم من هذه الحرب الاقتصادية الدائرة بين العملاقين الأميركي والاسيوي؟.

مع بداية العام 2025، أطلقت إدارة ترامب حزمة واسعة من التعرفات الجمركية على الواردات من كافة دول العالم، من الدول الصديقة والحليفة الى الدول العدوة. ووفق البيت الأبيض، فإن هذه الإجراءات تهدف الى تصحيح "العجز التجاري المزمن" للولايات المتحدة، وحماية الصناعات الاستراتيجية الأميركية من "المنافسة غير العادلة"، و"معاقبة" الدول التي "تستغل" الولايات المتحدة تجارياً، ودعم إعادة التصنيع فيها، وتعزيز المركز التفاوضي لها في مفاوضات تجارية جديدة. هذه التدابير اثارت غضب العالم اجمع بما فيه القارة الأوروبية، ولكنها شكلت تحدياً كبيراً للمارد الأصفر الذي لم يتأخر بقبول التحدّي، ورد بفرض تعرفات كبيرة على السلع الزراعية الأميركية، وخفض مشتريات السندات من بلاد العم سام، والاهم تقييد تصدير المعادن النادرة. الا انه يبدو ان التوافق الأميركي على خطورة الصين اقتصادياً يطال الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، ففي ولايته الأولى فرض ترامب تعرفات جمركية كبيرة على الصين، أضيفت عليها نسبة اكبر من قبل خلفه الديمقراطي جو بايدن. وهو ما ساعد على تقليص السلع التي تستوردها الولايات المتحدة منها من 21% من إجمالي الواردات في عام 2016، إلى 13% في العام 2024، خصوصاً بعد ان كان الاستيراد الأميركي من الصين قد بلغ (440 مليار دولار) مقارنة بما استورده الصينيون من أميركا (145 مليار دولار).

الاخذ والرد في التعرفات الجمركية ترك اثراً مهماً، ففي اميركا هبطت أسعار الأسهم في وول ستريت بنسبة 7% في أسبوع واحد بعد الإعلان عن الإجراءات الصينية، وارتفعت أسعار المنتجات الإلكترونية في الأسواق الأميركية بنسبة 15-20%، وخسر قطاع الزراعة الأميركي مبالغ مالية متوقع ان تزيد نسبتها مع استمرار هذه الحرب. وفي حين تعتمد الصين بشكل أساسي على فول الصويا والادوية والنفط الأميركي، فإن الولايات المتحدة تستهلك بشكل كبير المعدات الالكترونية (الهواتف الذكية بالدرجة الأولى) والكهربائية والألعاب الصينية الصنع. جميع هذه السلع المستوردة إلى اميركا ستصبح أكثر تكلفة بالنسبة للأميركيين بسبب التعرفة الجمركية البالغة 20% التي فرضتها إدارة ترامب بالفعل على بكين، ومع ارتفاع التعرفة إلى 125%، سيكون التأثير أكبر بخمس مرات.

ولكن "القطبة المخفية" الأبرز تبقى في الدور الذي تلعبه الصين في تكرير العديد من المعادن الاساسية للصناعة، من النحاس والليثيوم إلى العناصر الطبيعية النادرة. وهنا بالذات، يمكن فهم هجمة ترامب على الرئيس الاوكراني فولودومير زيلينسكي في البيت الأبيض لاجباره على توقيع اتفاق سلام مع روسيا واتفاق استفادة الاميركيين من القسم الأكبر من الثروات الأرضية الطبيعية في جبال أوكرانيا، بحيث استبق الرئيس الأميركي حربه مع الصين وحاول تعويض خسائره قبل ان تحصل.

ومع استمرار الحرب بين العملاقين، تقف بقية دول العالم في المنتصف، منتظرة تلقي النتائج الوخيمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما حصل مع كمبوديا والمكسيك وفييتنام بعد ان المحت واشنطن الى "معاقبتها" بهدف منعها من التجارة مع الصين إذا أرادت الاستمرار في التصدير إلى الولايات المتحدة. والعملاقان يشكلان معًا جزءًا كبيرًا من الاقتصاد العالمي، حوالي 43% هذا العام وفقًا لصندوق النقد الدولي، وصدامهما من شأنه الاضرار باقتصادات الدول الأخرى على شكل تباطؤ في النمو العالمي.

ومن بين الأمثلة الخطيرة، فإن الصين هي أكبر دولة مصنعة في العالم وتنتج أكثر بكثير مما يستهلكه سكانها محليًا، والصلب هو احد انتاجاتها المهمة، وإذا لم تتمكن تلك المنتجات من دخول الولايات المتحدة، فإن الشركات الصينية قد تسعى إلى "إغراق" هذه المنتجات في الخارج، وفي حين أن ذلك قد يكون مفيدًا لبعض المستهلكين، إلا أنه قد يؤدي أيضًا إلى القضاء على المنتجين في الدول الأخرى ما يهدد الوظائف والأجور.

إزاء كل ذلك، يبدو واضحاً أن عالم ما بعد 2025 سيكون مختلفاً بشكل جذري عما قبله، مع تداعيات اقتصادية وجيوسياسية لا يمكن التنبؤ بها بدقة في الوقت الراهن.