لفت رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، خلال افتتاح معرض صوَر "خمسون في خمسين" في المكتبة الوطنيّة، لمناسبة الذّكرى الخمسين للحرب اللّبنانيّة، إلى "أنّنا نقف اليوم في الذّكرى الخمسين لاندلاع الحرب في لبنان، لا لنفتح جراحًا لم تندمل، بل لنسترجع دروسًا يجب ألّا تُنسى، ولنُحيي في ذاكرتنا الجماعيّة ما مرّ به وطننا من ألمٍ ودمار، علّ الذّكرى تكون سدًّا منيعًا يحول دون تكرار المأساة الّتي عرفتها بلادنا".
وذكر أنّ "منذ خمسين سنة، انطلقت شرارة حرب دمويّة مزّقت لبنان بكلّ مناطقه وطوائفه وفئاته الاجتماعيّة على مدى 15 عامًا. سقط عشرات الآلاف من الضّحايا، تشرّد مئات الآلاف، وضاع من ضاع من الأهل والاحبّة بين مفقودين ومخطوفين لا يزال مصيرهم مجهولًا".
وركّز سلام على "أنّنا نستذكر اليوم عنف الحرب، والخطوط الحمراء والخضراء، بل السّوداء، الّتي قطّعت جغرافيا وطننا، وقسّمت مدننا وبلداتنا. نستذكر الرّعب الّذي عايشه كل لبناني في بيته، أو في مركز عمله، أو عند محاولته الانتقال من منطقة إلى أخرى".
وأشار إلى "أنّنا نستذكر عاصمتنا بيروت وكيف تحوّلت من مركز للتّلاقي والحوار والتّفاعل، إلى ساحة للقتال والدّمار والفلتان المريب. ونستذكر أيضًا الصّمت الثّقيل الّذي تلى الحرب، ولا سيّما المصارحة الّتي لم تكتمل، والعدالة الّتي لم تتحقّق".
كما بيّن أنّه "يكاد كل بيت في لبنان يملك قصّةً معلّقةً مع تلك الحرب: قتيلٌ لم يُدفن، مخطوفٌ لم يُعَد، أو خوفٌ متجذّر في النفوس من عودة تلك الأيّام السّوداء. كلّها حكايات ما زالت ماثلةً أمامنا، وهي تستدعي منّا العِبرة وتوجب علينا التّبصّر".
وأوضح سلام "أنّنا لا نقف اليوم فقط لنتذكّر الماضي، بل لننظر أيضًا إلى المستقبل. خمسون عامًا مرّت، ولبنان ما زال يصارع من أجل النهوض. شبابنا الّذين لم يعايشوا الحرب، يعيشون اليوم في ظلّ تبعاتها، ويدفعون ثمن نظامٍ متكلّس، ومصالح ضيّقة ما زالت تحكم الوطن، تقيّد طاقاتهم وتكبت طموحاتهم".
وشدّد على أنّه "بات واضحًا من مراجعة نتائج حروبنا على مدى الخمسين الماضية، أنّ لا أحد يربح فيها. فكلّ الجهات كانت في المحصلة خاسرة، وكل الانتصارات فيها تبيّن أنّها زائفة. كيف لا وقد أدّت الحروب المتعاقبة منذ 1975، إلى تهديد أمن البلاد وزعزعة استقرارها وانتهاك سيادتها، واحتلال أجزاء منها، ناهيكم عن قتل وتشريد وتهجير وإفقار مئات الالاف من أهلها".
وأكّد أنّه "آن الأوان لنواجه كل خطاب يفرّقنا ويفرزنا طوائف ومذاهب وجماعات وأحزاب متناحرة، ولنبني خطابًا يوحّد ويداوي ويؤسّس لدولة المواطنة الجامعة"، مضيفًا: "لعلّ الدّرس الأهم من هذه المراجعة أنّه مهما تباينت الآراء وتضاربت في أسباب الحرب الّتي اندلعت عام 1975، فهي كلّها تتقاطع عند مسألة غياب الدّولة أو عجزها".
إلى ذلك، لفت سلام إلى أنّ "القول عشيّة الانفجار الكبير بالغبن والحرمان من جهة، أو الخوف على الوجود والقلق على الهويّة من جهة أخرى، أسباب تعود كلّها إلى قصور الدّولة في تأمين شروط المساواة وتحقيق العدل بين أبنائها وتوفير الأمن لهم وضمان المصير".
وركّز على أنّه "حتّى القول بتغليب دور العوامل الإقليميّة والدّوليّة في تفسير جذور الأزمة أو مساراتها، يرجع إلى فشل الدّولة في تحصين الاستقلال والحفاظ على السّيادة، فراح كل فريق يعقد التّحالفات الخارجيّة ويستقدم السّلاح ويستنجد بالدّول الأجنبيّة وجيوشها، إذ لا دولة عنده تبعث بالثّقة أو توحي بالاطمئنان. ولا بد من الإضافة إلى كل ذلك كم كانت مؤسّسات الدّولة هشّة أصلًا، وإدارتها مرتهنة عند أمراء الطوائف". واعتبر أنّه "كما كان غياب الدّولة أو عجزها هو المشكلة، فلا حلّ إلّا بإعادة بنائها".
وتابع: "لنعد إذن إلى ما ارتضيناه ميثاقًا في ما بيننا لا لوقف الحرب فحسب، بل لإعادة بناء الدّولة على قاعدة متينة من الإصلاح، وعنيت بذلك اتفاق الطائف. فلنطبّق بنوده بالكامل، ولنصوّب ما طُبّق منه خلافًا لنصّه أو روحه، ولنعمل على سدّ ما تبيّن فيه من ثغرات، وعلى تطويره كلّما دعت إليه الحاجة".
ولفت سلام إلى أنّه "لأنّ اتفاق الطائف قال ببسط سلطة الدّولة على كامل أراضيها بقواها الذّاتيّة، وهو ما تخلّفنا عنه طويلًا، فلا بدّ من التّشديد اليوم على ألّا دولة حقيقيّةً إلّا في احتكار القوّات المسلّحة الشّرعيّة للسّلاح، فهي وحدها الّتي توفّر الأمن والأمان لكل المواطنين، وهي وحدها القادرة على بسط سلطة القانون في كلّ أرجاء البلاد، وعلى صون الحرّيّات العامّة والخاصّة. وهذا ما أكّد عليه البيان الوزاري لحكومتنا، حكومة الإنقاذ والإصلاح".
ودعا إلى "العمل من أجل دولة قويّة عادلة تُعيد الثّقة إلى شبابنا، دولة حديثة نعيد بناء مؤسّساتها على أساس الكفاءة لا الزّبائنيّة، دولة مدنيّة تضع في قلب سياساتها الإنسان الفرد، المتساوي في الحقوق والواجبات مع شريكه في المواطنة، لا الطّائفة أو المذهب. دولة تحفظ الذّاكرة لنتعلّم من ماضينا كي لا نكرّر أخطاءنا، بل خطايانا تجاه بعضنا البعض. دولة تثمّن مبدأ المساءلة وترفض منطق "عفا الله عمّا مضى"، دولة تقوم على قوّة القانون لا على هشاشة منطق "تبويس اللحى".
وشدّد على أنّه "لأنّ الجروح لا تختم على زغل، فإنّ مسؤوليّة الدّولة هي أن تعالج أيضًا ملفّات المفقودين والمخطوفين بجديّة وشفافيّة، وصولًا إلى الحقيقة، لأنّها وحدها ما يحقّق العدالة المنشودة"، خاتمًا: "فلنجعل من الذّكرى الخمسين نقطة تحوّل، لا مجرّد لحظة للتذكّر. فلننظر معًا إلى الأمام، إلى لبنانٍ جديد، يليق بتضحيات أبنائه، ويحتضن طموحات شبابه".