على الرغم من أنّ مجرّد طرح نزع سلاح "حزب الله" على الأجندة الحكومية، بعدما كان لسنوات طويلة أشبه بـ"تابو" يحظر تجاوزه، يفترض أن يُقابَل بإيجابية من جانب خصوم الحزب، وعلى رأسهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي لطالما اشتكى ممّا أسماه بـ"ازدواجية السلاح"، و"مصادرة قرار الحرب والسلم"، إلا أنّ الأخير لم يَبدُ راضيًا عن أداء "العهد" على هذا الصعيد، قائلاً إنّ خطوات العهد ليست مثالية، وإن لم تكن "قليلة" أيضًا.

ففي ما فسّره كثيرون "مزايدة" على رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي يتمسّك بالحوار والتواصل عنوانًا لحلّ إشكاليّة نزع السلاح، وهو ما أبلغه للمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس خلال زيارتها الأخيرة إلى بيروت، اختار جعجع أن يعبّر عن رفضه لفكرة الحوار بالمُطلَق بوصفه "تضييعًا للوقت"، باعتبار أنّ القرار بنزع السلاح مُتّخَذ منذ أيام الحكومة السابقة، بمجرد مصادقتها على اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.

ولم يتردّد جعجع في رسم "خريطة طريق" نزع السلاح، التي بدت لمن استمع إليه، وكأنّها أمر "إجرائي" ليس إلا، فهو اعتبر الحديث عن جنوب وشمال الليطاني "بدعة لا وجود لها"، وشدّد على أنّ الجيش اللبناني هو الذي يضع استراتيجية الأمن الوطني، التي تندرج في إطار الاستراتيجية الوطنية الدفاعية، في حين أنّ دور السياسيين يقتصر على الموافقة عليها، من خلال التصويت داخل مجلس الوزراء، لتدخل حيّز التنفيذ.

بمعنى آخر، يدعو جعجع إلى نزع سلاح "حزب الله" بالقوة إن اقتضى الأمر، ومن دون المرور بقناة الحوار، لكن هل مثل هذه الاستراتيجية قابلة فعلاً للتطبيق، وأيّ محاذير يمكن أن تترتّب عليها، ولماذا يظهر جعجع في هذا الموضوع كمن يرغب بالتمايز عن الجميع، بما في ذلك رئيس الجمهورية جوزاف عون، علمًا أنّ الحزب لم يعلن حتى الآن أيّ موقف رسميّ من نزع سلاحه، وإن أكدت أوساط عون أنه يبدي المرونة اللازمة؟!.

بالنسبة إلى المحسوبين على رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، فإنّ الطرح الذي قدّمه لنزع السلاح، لا يندرج في خانة المزايدة على رئيس الجمهورية، وبالتأكيد ليس في خانة التناقض معه، وإنما ينطلق ممّا تعهّدت به الدولة اللبنانية، في ظلّ الحكومة السابقة، التي كانت مصنّفة على أنها "حكومة حزب الله"، فهي حين وافقت على اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، كانت تدرك أنّه ينصّ بوضوح على حصر كلّ السلاح بيد الدولة اللبنانية.

من هنا، فإنّ ما يقترحه جعجع وفقًا للمحسوبين عليه، هو تطبيق هذا البند، الذي يفترض أنه حاز على موافقة "حزب الله" بمجرد أن وافق على اتفاق وقف إطلاق النار، علمًا أنه بات واضحًا أنّ الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية على لبنان لن تتوقف إلا بنزع السلاح، وهو ما تبلغه لبنان بصورة أو بأخرى من المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس خلال زيارتها الأخيرة، حيث كانت واضحة بضرورة أن ينهي لبنان الشق المطلوب منه في الاتفاق أولاً.

أما اعتبار جعجع أنّ الحوار حول هذا الموضوع تضييع للوقت، فينسجم مع موقف "الحكيم" المعروف من طاولات الحوار المتعاقبة، التي لم تحقّق شيئًا عمليًا على امتداد تاريخها، حتى حين كانت تتوصّل إلى قرارات، كما حصل مثلاً في ملف السلاح الفلسطيني في لبنان، وهو ما يدفع إلى التوجّس من أن يكون الهدف من أيّ حوار بهذا المعنى، المزيد من المماطلة، وربما التمييع، إلى حين تتغيّر بعض المعطيات داخليًا أو خارجيًا.

لكنّ المحسوبين على رئيس حزب "القوات" يرفضون ما يصفونها بـ"المحاولات الخبيثة" للإيحاء بأنّ الرجل "يزايد" على رئيس الجمهورية، أو يسجّل النقاط على حسابه، مشيرين إلى أنّ اعتراضه هو على الذهاب إلى طاولة حوار كما كان يجري في السابق، في حين أنّ ما يطرحه الرئيس حاليًا هو حوار مباشر مع "حزب الله" للتفاهم معه ربما على آلية استيعاب سلاحه، وتبديد هواجسه إن وُجِدت، وهذا الأمر لا مشكلة فيه، إن لم يؤدّ إلى تأجيل التنفيذ.

لكن، أبعد من موقف جعجع "الحازم" من مسألة نزع سلاح "حزب الله"، والذي يجد صداه أيضًا لدى العديد من الأفرقاء، الذين يقول البعض إنّهم "مستعجلون" على إنجاز هذا الاستحقاق، أكثر من الإسرائيلي والأميركي، من دون مراعاة الاعتبارات الداخلية التي يفترض أن تلعب دورًا مؤثّرًا في هذا السياق، ثمّة من يسأل عن مدى "قابلية" هذه الخطة، أو الاستراتيجية، للتنفيذ، في وقت لم يُعرَف بعد مدى "جدّية" الحزب أساسًا إزاء هذا الملف.

هنا، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ الأخير، وإن أبدى مرونة وليونة، خصوصًا في التعاطي مع رئيس الجمهورية، الذي يتعامل مع الموضوع بحكمة وعقلانية، إلا أنّه لا يعتبر أنّ "الأولوية" اليوم يجب أن تكون متركّزة على نزع السلاح، طالما أنّ الأخطار والأطماع الإسرائيلية لا تزال ماثلة، بدليل الاعتداءات اليومية على الأراضي اللبنانية، التي يبدو نافرًا كيف أنّ البعض بات يتعامل معها وكأنّها "روتين"، ولا تستحقّ أيّ تعليق.

وبخلاف "سرديّة" جعجع، التي تتبنّى برأي هؤلاء السرديّة الغربية، من حيث ربط وقف الخروقات الإسرائيلية بنزع السلاح، فإنّ "سرديّة" لبنان الرسمي يجب أن تكون وفق منطقهم، "في الاتجاه المعاكس"، بمعنى أنّ نقاش نزع السلاح يبدأ بعد أن تتوافر الضمانات المطلوبة، بحيث تنتفي الحاجة فعليًا له، أما أن يُطرَح قبل أن تنجح الدبلوماسية بإلزام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلّتها، فهو أمرٌ يدلّ على وجود خلل حقيقي وجوهري.

استنادًا إلى ما تقدّم، يخشى البعض أن تؤدي أي مقاربة "غير عقلانية" لملف السلاح، على طريقة طرح جعجع، الذي يقرأه البعض "استقواء" على مكوّن لبناني، إلى تعقيد المشهد أكثر، بل إلى صدامات أمنية لا يبدو أنّ لدى أحد مصلحة بها، علمًا أنّ هذا الأمر يبقى احتمالاً واردًا بحسب تجارب التاريخ، حتى لو حاول جعجع القول إنّه غير مطروح، باعتبار أنّ "حزب الله" لم يهدّد أساسًا بحرب أهلية، أو ما شابه.

في النتيجة، لا شكّ أنّ شيئًا كبيرًا تغيّر في المقاربات، حتى لم يعد الحديث عن سلاح "حزب الله" خطًا أحمر كما كان في السابق، وحتى بات النقاش بنزع هذا السلاح من الأولويات. لكنّ الأكيد وفق ما يقول العارفون، أنّ هذا الاستحقاق لم ينضج بعد، وهو لن ينضج إلا بالتوافق، توافق داخلي في المقام الأول، لكنه قد يكون خارجيًا برأي كثيرين، وسط رهانات على المفاوضات الأميركية الإيرانية التي سيُبنى عليها الكثير في المرحلة المقبلة...