يقال إنّ الثرثرة ليست عيبًا فحسب، بل مرضٌ يُنهك الروح ويرهق القلب. وقد عبّر عن ذلك تولستوي بقوله: "الثرثرة ليست عيبًا، إنها مرض"، فيما رأى آخرون أن الشيطان كثيرًا ما يضع نفسه على ألسنة البشر، فيجعلهم يثرثرون بلا معنى، فتضيع الكلمات كما يتبدّد الدخان في الهواء.
في هذه الأيام المقدّسة، حيث نجاهد بالصوم والصلاة والصدقة وعيوننا شاخصة إلى الفصح، وعلى مسافة يوم واحد من دخولنا، مع يسوع المسيح إلى أورشليم، يقف أمامنا قول القديس أفرام السرياني: "اعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال...". الكلام البطّال ليس ألفاظًا تخرج بلا جدوى، بل هو سهم مسموم قد يصيب القلوب ويفسد العلاقات. هو مرض يُدمن عليه البعض، حين يسرفون في الكلام، ويتدخّلون فيما لا يعنيهم، ويراقبون الناس كأنهم قضاة على العالم، متناسين أن الله هو الديّان العادل، وأن عدالته تسمو فوق كل أحكام الأرض.
وقد حذّرنا المسيح نفسه من ذلك بقوله: "إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَاطِلَةٍ يَتَكَلَّمُ بِها النَّاسُ، سَوْفَ يُؤَدُّونَ عَنْهَا الْحِسَابَ فِي يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ" (متّى ١٢: ٣٦). إنّ للكلمات وزنًا ومعنى، فإما أن تبرّرنا أو تديننا، وإما أن ترفعنا أو تهوي بنا إلى الهلاك. حتى بولس الرسول شدّد على أهمية انتقاء الكلام، فقال: "رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءًا" (أعمال الرسل ٢٣: ٥)، فبعد اسبوع من اليوم ستعلو الاصوات تطالب بصلب المسيح، بعد أن هتفت الاصوات نفسها في أورشليم "هوشعنا، مباركٌ الآتي باسم الربّ"، (متى٢١: ١٠-١١). هذا تذكير لنا بأن اللسان قد ينطق بالخير وقد ينطق بالكلام البطّال، حفظ اللسان في الكلام الصالح فضيلة تحفظ القلوب من الضغينة.
قد نقع جميعًا، عن وعي أو عن غير وعي، في مستنقع الثرثرة. فالشخص الثرثار لا يدرك أنه يبدّد قيمته بنفسه، فهو ينثر تفاصيل حياته أمام الجميع بلا تمييز، ويتحدّث عن إنجازاته وإخفاقاته وكأنه يُلقي بمحطات عمره في مهبّ الريح. والأخطر من ذلك، حين يتطاول البعض على أعراض الآخرين، فتصبح ألسنتهم معاول هدم تطيح بسمعة الأبرياء.
إنّ الثرثرة ليست فقط عادة سيئة، بل هي خطيئة، والإفراط في الكلام ليس مجرد طبع، بل هو داء قد يكون سببه التوتر، أو الرغبة في لفت الأنظار، أو شعور دفين بالنقص، أو حتى عقدٌ توارثها الإنسان دون أن يدرك فداحتها.
في المفهوم الكنسي، الكلام البطّال أداة هدم، يخرّب البيوت، وينشر الفتن، ويفسد المحبّة بين الناس. وكما قال أحد الحكماء: "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب". فلا بد أن نُحسن ضبط ألسنتنا، ونتعلّم كيف نُحسن الاستماع أكثر مما نُكثر الكلام، ونوجّه الحديث إلى ما ينفع، ونعرف متى نُنهيه بلُطف قبل أن يفقد معناه.
"الكلمة تُخلّص، والكلمة تقتل." إنها سلاح ذو حدّين، قد تكون نورًا يبدّد الظلام، أو نارًا تحرق كل شيء. حين تفقد الكلمات نعمتها، تتحوّل إلى فراغ، إلى طنين أجوف، إلى باطل يثقل النفس ويرهق الأرواح.
فلنعمل بوصية الرسول بولس: "وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ تَرْتِيبٍ" (١ كورنثوس ١٤: ٤٠)، فحين يكون كلامنا بلياقة، يكون سلامنا دائمًا، سواء في بيوتنا أو في كنائسنا أو في مجتمعاتنا.
ليتنا ننتقي كلماتنا كما ننتقي أثمن الجواهر، فلا نُلقيها حيث لا تثمر، ولا نجعلها سهامًا تصيب قلوب من حولنا، بل نجعلها بلسمًا يشفي، ونورًا يُضيء، وكلمة طيبة تُزهر في أرواحنا وأرواح الآخرين.
الكلام البطّال هو كلماتٌ تفتقد إلى النعمة.