تعزيز ’’فكرة الدولة‘‘ هو أهم إنجاز يمكن أن يقوم به رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون. فتاريخ الدولة اللبنانية منذ الإستقلال وما قبله هو تاريخ الحروب الأهلية التي تقطعها هدنات مؤقتة. وما أن يستقر نسبيا السلم الأهلي حتى تنفجر الحروب الطائفية أو داخل الطوائف نفسها.

في ذكرى 13 نيسان تاريخ اندلاع الحرب الأهلية كان موقف الرئيس جوزاف عون حاسما. ’’آن الأوان لنقول جميعا الدولة وحدها هي التي تحمينا. الدولة القوية، السيدة، العادلة، الحاضرة اليوم، الدولة المنبثقة من إرادة اللبنانيين... آن الأوان لنقول جميعا لا يحمي لبنان إلا دولته وجيشه وقواه الأمنية الرسمية...‘‘.

قراءة منطقية للرئيس العماد حول ’’فكرة الدولة‘‘. ولكن كيف يمكن تحقيقها. فالبعض من القوى السياسية يشكك. والبعض الآخر يعتبرها تقع في ’’دائرة الوعظ‘‘. كما أن قسما كبيرا من اللبنانيين ومن كل ألوان الطيف الديني والمناطقي يرون في كلام الرئيس مخرجا واقعيا لما نحن فيه من انقسامات سياسية وطائفية. ويرون في خطابه استعادة لما كان الإمام السيد موسى الصدر يردده حول فكرة ’’الدولة الملجأ‘‘ لكل اللبنانيين وأن لا حل إلا فيها وكان يشاركه هذه ’’الرؤية‘‘ المطران غريغوار حداد الذي كفّره البعض لخروجه على المنطق الطوائفي ولمحاولته خدمة الفقراء في الأطراف والأرياف وتعويض غياب الدولة ببناء المستوصفات والمكتبات والنوادي ونشر ’’الفكر المدني‘‘ الذي يزاوج بين التفسيرين الديني والعلماني باعتبار أن القيم هي واحدة. وكان الإمام موسى الصدر لاقاه على كون الأديان جميعها غايتها الأساسية هي خدمة الإنسان.

وفي تصور الإثنين الإمام موسى الصدر والمطران حداد أن ’’الدولة‘‘ لا تستقيم إلا بالوصل الفعلي بين المركز والأطراف. ذلك أن ’’الدولة تتجمع في بيروت والجبل‘‘ ما ينجب خللا بنيويا طوائفيا ومناطقيا. وبالفعل هذا الخلل حاول بجدية معالجته الجنرال فؤاد شهاب بمواجهة فعلية مع الزعامات الطوائفية على اختلافها بطريقتين متلازمتين. الأولى إشادة المدارس والطرقات وشبكات المياه والكهرباء في الأطراف اللبنانية. والثانية فتح المجال أمام أصحاب الكفاءة بالوصول إلى الوظيفة التي كانت حكرا على الإقطاع السياسي وبطانته. أما الأسلوب إلى ذلك فكان ايجاد المؤسسات المستقلة عن المرجعيات السياسية من مجلس خدمة مدنية وتفتيش مركزي وديوان محاسبة وبنك مركزي. وما عطّل محاولة الجنرال شهاب الإصلاحية هو انقلاب القوميين القوميين السوريين الخاطئ في أهدافه وتوقيته والذي جعل ’’الشعبة الثانية‘‘ متحكمة بالدولة وأخرج الدور البنّاء للنخب الفكرية التي تجاوبت مع المساعي الإصلاحية ما وفّر من جديد تحكم الإقطاع السياسي. والملاحظ أن الحزب السوري القومي أحدث مراجعة سياسية لهذا الخطأ الذي وقع فيه.

لا شك أن الظروف الدولية والاقليمية المحيطة بالوضع اللبناني تمنح الرئيس جوزاف عون هامشا واسعا في مساعيه الإصلاحية. إنما هذه المساعي تحتاج إلى ’’رؤية سياسية‘‘. فلا إصلاح إداري من دون إصلاح سياسي. ولا إصلاح من دون قاعدة شعبية تحتضنه وتحميه. ومثل هذه ’’القاعدة الشعبية‘‘ يمكن للرئيس جوزاف عون أن يوفّرها عبر ’’حاملة اجتماعية للتغيير‘‘ أساسها النخب الفكرية وتحرير مؤسسات الدولة من الوصايات الطائفية. وهذه المسألة تفترض أن تكون مقاربة التغيير عملا جماعيا. ذلك أن جزءا أساسيا من المشكلة في لبنان هي ’’فكرة الزعيم‘‘ التي تلغي قرار الجماعة وظاهرة الديموقراطية.

نأمل من الرئيس العماد جوزاف عون أن يستفيد من كون النخب الفكرية التي تتمثل بشكل كبير في القطاع العام وخارجه والتي في أغلبيتها كسرت علاقتها نسبيا بالطبقة السياسية بسبب تردي أوضاعها الإقتصادية وبسبب أن الدولة لم تعد ’’البقرة الحلوب‘‘ لما تعانيه من ضغوط الخارج والداخل ومن مشاكل مالية ضاغطة ومن عدم القدرة على استيعاب الشباب والمرأة.

لكن السؤال الرئيسي هل الرئيس جاهز.

في التقدير نعم. وهذا يتطلب أولا وأخيرا ’’تجاوز‘‘ من يهمسون في الآذان خلافا لرغبة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين. فالهامسون لا رغبة لديهم لا في الإصلاح ولا في التغيير ولا في ’’فكرة الدولة‘‘. همّهم أنفسهم ومصالحهم.