«ومن أيَّام يوحنَّا المعمدان إلى الآن ملكوتُ السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونه» (متَّى 11: 12). قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ ما قاله الربُّ يسوع المسيح في الآية صاعق ومربك. كيف يمكن أن يكون اغتصاب الملكوت السماويِّ مقبولًا عند الربِّ؟ وكذلك الخاطفون له؟.

في الحقيقة، ما يقوله الربُّ هو جوهريٌّ في حياتنا مع المسيح. فقبل النبيِّ يوحنَّا المعمدان، طفق الأنبياء يتنبَّأون بمجيء المخلِّص، أمَّا في زمن يوحنَّا فتحقَّقت النبوءات وتجسَّد المسيح. يوحنَّا كرز بمعموديَّة التوبة أمَّا الربُّ فيعطي الغفران. التوبة الصادقة والغفران متلاصقان ومتلاحمان ويشكِّلان الولادة الجديدة للإنسان. لهذا جاء خالقنا إلينا ليعيدنا إليه. هذا هو الفصح المستمرُّ.

في يوم الثلاثاء العظيم من الأسبوع العظيم المقدَّس تُخصِّص الكنيسة ما يُعرَف بصلاة الختن الثالثة والأخيرة للمرأة الزانية الَّتي مسحت بدموعها قدمَي يسوع بعد أن سكبت عليهما الطيب. الزانية اغتصبت الملكوت السماويَّ بتوبتها ودموعها. استبقت الفصح بعبورها من ظلمة الخطيئة إلى نور النعمة. فأوصى الربُّ يسوع المسيح بأن يُذكَر ما فعلته في كلِّ أرجاء المسكونة إلى أقاصي الأرض. كان عملها نبوءة عن دفن المسيح. قراءات هذا اليوم وصلواته وتراتيله تتحلَّى بجمال وبهاء كبيرين وعظيمين. كلُّ كلمة فيها لها وزنها ومعانيها وقوَّتها. وبالأخصِّ المقارنة الكتابيَّة بينها وبين يهوذا الَّذي أسلم الربَّ وخانه؛ فهي كانت تجهِّز الطيب الباهظ الثمن، أمَّا هو فباع الربَّ بأرخص الأثمان. هي تحرَّرت من الفساد ووُلدت من جديد، أمَّا هو فأصبح عبدًا للخيانة ومات فيها. كذلك هي بتوبتها ماثلت حاملات الطيب واشتهت التوبة بصدق بخلاف تكبُّر حوَّاء القديمة التي اشتهت الخطيئة. حتَّى إنَّها سبقت تلاميذ الربِّ قبل أن يحلَّ عليهم الروح القدس في العنصرة.

يا لهذه العظمة في الليتورجيَّة الَّتي تجمع في طيَّاتها الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، والأحداث الخلاصيَّة والدعوة إلى التوبة وعمل الربِّ الخلاصيِّ الَّذي يعني كلَّ فرد منَّا.

ومن يصغي بإتقان إلى القطعة الشهيرة الخاصَّة بالمرأة الزانية والَّتي إذا رُتِّلت بإتقان وخشوع وصوت خارج من القلب جعلت الأرض تهتزُّ، لا القلوب فقط، فكلماتها تجعل دموعنا تجري كالأنهار الفيَّاضة والَّتي هي دموع فرح التوبة والدفء بحرارة حنان الربِّ. الترتيلة تقول: «يا ربُّ إنَّ المرأة الَّتي سقطت في خطايا كثيرة، لمَّا شعرت بلاهوتك اتَّخذت رتبة حاملات الطيب وقدَّمت لك طيوبًا قبل الدفن منتحبة وهاتفة: ويحي لقد حصل لي شغف الفجور وعشق الخطيئة ليلًا قاتمًا فاقد الضياء، فاقبل ينابيع دموعي يا مَن يجتذب مياه البحر بالسحب، وانعطِف لزفرات قلبي يا مَن أحنيت السموات بتنازُلك الَّذي لا يُدرَك، فأقبِّل قدميك الطاهرتين وأنشِّفهما بضفائر رأسي، اللتين لمَّا طنَّ صوت وطئهما في مسامع حوَّاء في الفردوس جزعت واستترت خوفًا. فمن يفحص كثرة خطاياي ولجج أحكامك. فيا مخلِّصي المنقذ نفسي، لا تعرض عنِّي أنا عبدتك، يا من له الرحمة الَّتي لا تحصى».

هي كلمات القدِّيسة «كاسياني» (810-٨٦٥م)، الَّتي أعجب بها الإمبراطور ثيوفيلوس لجمالها الباهر، وأرادها زوجة له، ولكنَّها عشقت المسيح وترهَّبت. وقد دار حوار سريع بينهما، فقال لها: «بالمرأة حصل الأسوأ»، مشيرًا بذلك إلى سقطة حوَّاء قديمًا. فما كان منها إلَّا أن أجابته بفطنة المسيح وحكمته: «وبالمرأة حصل الأفضل»، مشيرة بذلك إلى والدة الإله.

ويقال إنَّها عندما كانت تكتب قطعة الصلاة هذه، أتى الإمبراطور إلى ديرها على غفلة لزيارتها، فاختبأت منه، وعندما وقع نظره على أوراقها وقرأ ما كتبته تأثَّر كثيرًا، فأضاف إليه بعد: «وأنشِّفهما بضفائر رأسي»، ما يلي: «اللتين لمَّا طنَّ صوت وطئهما في مسامع حوَّاء في الفردوس جفلت واستترت خوفًا» وذهب. عندها أكملت الباقي.

بالعودة إلى المرأة الزانية. يا لشجاعتها الَّتي أصبحت مثالًا للعودة إلى الرب وتغيير الذهن والمسلك، وهذا تمامًا ما تعنيه كلمة مطانيَّة الآتية من اللغة اليونانيَّة Metanoia (μετάνοια). توبتها فصح بامتياز، يحثُّنا إلى العبور معها والقيامة من جحيم خطايانا وسقطاتنا ورمي أنفسنا في أحضان الربِّ القائم القدُّوس.

أيقونتان تخبراننا عن الحدث القياميِّ، الأولى تخبر عن نزول الربِّ إلى الجحيم قبل قيامته، وتعرف شعبيًّا بأيقونة القيامة، ونشاهد فيها يسوع ينتشل آدم وحوَّاء وأبواب الجحيم مخلَّعة تحت قدميه. والثانية تدعى أيقونة القبر الفارغ، وهي تخبر عمَّا حصل بعد القيامة الَّتي نشاهد فيها القبر الفارغ والملائكة ووالدة الإله وحاملات الطيب أتين القبر باكرًا جدًّا. والاثنتان تدعواننا جميعًا لننضمَّ إلى القيامة المجيدة ونتوب لنقوم مع الربِّ ولا نبقى قابعين في ظلام جهنَّم القاتل.

إلى الربِّ نطلب.