لن تتفرج الرابية على بقاء الأمور على ما هي عليه ريثما ينتهي التقاتل السوري وتُخرِّج القوى الإقليمية والدولية تسوية محلية، خصوصاً أن نتيجة التقاتل وانعكاسات التسوية على النفوذ العونيّ غامضة. العونيون لن يكونوا ضحية تسوية هذه المرة. والانتخابات النيابية، في الحسابات العونية، على تشكيل الحكومة وهوية رئيسها وحقائبها
يمكن عصابات الخطف فتح باب التوظيف، فأعمالها ستزدهر في الأشهر المقبلة. وسينضم إلى مؤمن المحمد أطفال آخرون يموتون على أبواب المستشفيات. وسيبقى اللاجئون السوريون، حتى لو بلغوا المليون، من دون خطة اقتصادية وأمنية واجتماعية وصحية ترعى إقامتهم الطويلة هنا. وليتم استحداث مجمعات تجارية قرب «معابر الجهاد» بين لبنان وسوريا، لازدهار تلك النقاط أكثر من فردان والأشرفية والضبية.
الرؤساء ميشال سليمان ونبيه بري ونجيب ميقاتي والنائب وليد جنبلاط يرون أن الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية نعمة تستوجب التمديد. والتمديد لمجلس شانت جنجنيان وعصام صوايا ونايلة تويني، يستتبعه تمديد لولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان الحافلة بالإنجازات، وتمديد لسن قائد الجيش العماد جان قهوجي التقاعدي.
ينقل زوار رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون عنه اقتناعه بأن حزب الله دخل شهر آذار المنصرم واثقاً باستحالة فوز قوى 8 آذار بأكثرية مقاعد المجلس النيابي، أياً كان قانون الانتخاب. وعليه، بدأ الحزب يقترب من نظرية الرئيس بري في شأن وجوب الوصول إلى صيغة انتخابية توافقية على غرار الاتفاق الرباعي واتفاق الدوحة، من منطلق أن مردود التسوية بالنسبة للثنائية الشيعية، هو نفسه ما ستفرزه حفلة الجنون المذهبيّ الانتخابية. وفي وقت كان التيار الوطني الحر «يهتّ» خصومه المسيحيين من قوات لبنانية وكتائب وغيرهما بمراعاة حلفائه المطلق له في ما خص قانون الانتخاب وتصحيح التمثيل المسيحيّ، خلافاً لحليفهم المستقبليّ، فوجئ العونيون بإيقاف بري مسار اقتراح القانون الأرثوذكسي التشريعي، في ظل تبشير أصوات الكراسي الثابتة في لقاء الأربعاء النيابي بوجوب تأجيل الانتخابات: علانية بحجة الأوضاع الأمنية أو تعذر التوافق على قانون الانتخاب، وسراً بحجة انتظار التسوية الإقليمية أو تأجيل «المشكل». وكذلك في ضوء تبني الأمليين لنظرية «سعد هو الحل» في ما يخص الظواهر الأسيرية المتنقلة، شمالاً وجنوباً وبقاعاً، وتسميع بعض نواب حزب الله زملاءهم العونيين في مكاتب المجلس كلاماً من هذا القبيل. ويشير أحد النواب العونيين، في هذا السياق، إلى أن حجة بري لتأجيل دعوة الهيئة العامة إلى الاجتماع كان عدم استفزاز ميقاتي وجنبلاط وفرط الحكومة. لكن سرعان ما طارت هذه الحجة مع فرط ميقاتي حكومته وربط جنبلاط موقفه الحكوميّ بالموقف الحريريّ.
وينقل زوار الرابية عن جنرالها اقتناعه بأن اتفاقاً بين بري وسليمان وميقاتي وجنبلاط، بمعرفة حزب الله وإيعاز سعودي، كان وراء تقديم ميقاتي استقالته تلك. ومهما قال مبعوثو الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى الرابية، لا يمكن عون التصديق أبداً بأن «حليف حليفه» يذهب إلى اتفاق سريّ يرسم الخطوط العريضة للعامين المقبلين من دون إعلام حزب الله بأدق التفاصيل. كما لا يصدق عون، في السياق نفسه، إعطاء الحزب كلمته لبري قبل استشارته وضمان شروطه. ولو لم تكن الطبخة مسبقة، يتابع المصدر العونيّ، لكانت قوى 8 آذار اجتمعت فور استقالة ميقاتي في الهيئة العامة لمجلس النواب وأقرت قانون انتخاب يردّ صاع ميقاتي وجنبلاط الحكومي صاعين. لكن ذلك لم يحصل. ولاحقاً، لم يكد توفيق (سكرتير الجنرال) يقاطع صبحية الشرفة الصغيرة بمناولة الجنرال الصحف وفيها الكلام الجنبلاطي عن وجوب نزع حقيبتي الطاقة والاتصالات من قبضة الرابية، حتى فهم عون الخطة: «يريدون إلهائي عن المعركة الرئيسية بمعركة هامشية للاحتفاظ بوزارتين نجح التيار في إدارتهما».
همّ الرئيس سليمان اليوم ضمان تمديد ولايته، وتأجيل الانتخابات النيابية يفيد مرشحيه الكشفيين (أو الوسطيين). همّ حزب الله تفادي الانفجار الأمني، أو أقله تأجيله، مع استحالة إعادته السلطة مجاناً الى تيار المستقبل. همّ النائب وليد جنبلاط الحفاظ، عبر كتلته النيابية الوازنة، على موقعه كبيضة قبان بين 8 و14 آذار، وعينه ــــ كما الرئيس بري ــــ على النفط الراسي في «بحرهما». همّ تيار المستقبل الرئيسيّ إسقاط النظام السوريّ، والتفصيلي العودة إلى السلطة. وهمّ العماد عون، أخيراً، تكريس نفوذه في المرحلة المقبلة عبر كتلة نيابية وازنة ترسخ قدمي تياره في الأرض بغض النظر عمّا سيحصل في سوريا.
في رأي أحد المتابعين، فإن طبخة بري ــــ جنبلاط ــــ ميقاتي ــــ سليمان كانت تقتضي، بحسب ما فهمه جنبلاط من السعودية، عودة ميقاتي مجدداً إلى السرايا بمباركة حريرية. إلا أن اللوبي الحريريّ نشط في السعودية لتعطيل هذا الطرح. وبدل التزام جنبلاط الوعد الذي قطعه لبري، واستقال ميقاتي بموجبه، حسم التزامه بما تقرره السعودية أولاً وأخيراً، سواء مالت لقطر وتركيا المؤيدتين لمن يسميه الحريري أو لواشنطن ولندن وباريس المعجبة بميقاتي. وبموازاة الفيتو الحريريّ على ميقاتي الذي أحرق «طبخة روما»، أطلّ من الرابية فيتو عونيّ على ميقاتي. ومن دون وسطاء، أو أي شكل من أشكال الاتصال، بدأ يلوح تقارب جديّ بين الخصمين اللدودين: تكتل التغيير والإصلاح والمستقبل. وفي «اجتماع الخميس» الأسبوعي في الرابية، أصدقاء مقربون لمرشح حريريّ يزداد التداول باسمه لرئاسة الحكومة المقبلة. ورغم الرفض العونيّ المعلن لحكومة التكنوقراط، يؤكد بعض النواب العونيين المطلعين أن تكتلهم لن يعارض أبداً حكومة انتخابية يكون هدفها إجراء الانتخابات. وفي حسابات الرابية أن الوقت وقت انتخابات نيابية وليس عمل وزاريّ. وللحكومة المقبلة هدف وحيد في حسابات التيار: الإشراف على إجراء الانتخابات. ويشير أحد النواب العونيين إلى وجوب عدم تضييع الأفرقاء السياسيين وقتهم بمجادلة التيار في ما يخص حجم تمثيله الوزاري وشكله. إذ انه خلص من التجربة الوزارية الأخيرة إلى أن وزارة فاعلة واحدة يحقق فيها الوزير ما حققه جبران باسيل في الطاقة خلال العامين الماضيين، أهم من تسع وزارات مثل العدل والسياحة والصناعة والثقافة التي كانت سبب نقمة على التيار أكثر منها نعمة.
في رأي الرابية، أنها دفعت عام 2005 ثمن تفاهم بري ــــ جنبلاط الرباعي. ودفعت عام 2009 ثمن مصالحة حزب الله ــــ تيار المستقبل السياسية. وهي تدفع، منذ شكلت حكومة ميقاتي، ثمن نأي حلفائها بأنفسهم عن شتى الملفات بحجة عدم استفزاز هذا وذاك، حتى نحا تكتل التغيير والإصلاح (وحقيبة العدل في حوزته) نحو طباعة الكتب للقول إن إبراء فؤاد السنيورة مستحيل. وعليه، لن تنتظر الرابية تسوية إقليمية علّمتها التجارب أنها ستكون ضحيتها الوحيدة. ثمة إصرار عونيّ على خوض الانتخابات: بدل أن يمون حزب الله علينا لقبول التمديد للمجلس النيابيّ، فليمن على الرئيس بري لإقرار القانون الانتخابي الأنسب. وبدل إعطاء السلفيين الجهاديين عامين للتوسع أكثر فأكثر فلتبين قيادة الجيش خطتها لحصار هؤلاء. وبدل هروب قوى 8 آذار من الانتخابات فلتلمّ شملها سواء في زحلة أو الكورة لتفوز في الانتخابات.
كسباً للوقت، حاصر حزب الله العماد ميشال عون باجتماع لقوى 8 آذار قبيل مقابلته التلفزيونية وآخر بعدها. ماتت المقابلة في مهدها، لكن مضمون الكلام العونيّ غير المعلن كان أمس لا يزال هو نفسه. بعد اجتماع عين التينة أكثر حدة من قبله: لا تمديد ولا مهرب من إجراء الانتخابات. أبواب الرابية مفتوحة، ولا التزامات نهائية مع أحد.
عودة الى الأيام الغابرة
لم تكن مقابلة العماد ميشال عون على قناة «أو تي في»، أول من أمس، في الأوساط العونية كسائر مقابلات رئيس تكتل التغيير والإصلاح منذ سنوات، إنما كتلك التي كان يطل بها عون من منفاه الباريسي قبل عام 2005. فخلال أيام قليلة، نجح عون، عبر تكثيف لقاءاته بالناشطين العونيين، في تجديد حماسة هؤلاء عبر إشعارهم بأنهم أمام مرحلة صعبة قد يضطرون إلى خوض غمارها وحدهم على غرار انتخابات 2005 ومختلف الاستحقاقات التي سبقتها. ومساء الثلاثاء، كان يمكن في أكثر من صالون لحظ الرغبة العونية الشديدة بذهاب عون في احدى المعارك السياسية حتى النهاية على غرار الأيام الغابرة، في ظل نقمة عونية شديدة على الرئيس نبيه بري بعد الرئيس الرئيس نجيب ميقاتي. أحد نواب بعبدا العونيين قال إنه ظن، لوهلة، أن المتحدّث عن بري أول من أمس كان النائب زياد أسود لا العماد عون.