كثيرة هي القرارات الصعبة التي تقع على كاهل أهل المريض عندما تتطور حالاته ويصبح وضعه أكثر سوءاً، وتترافق هذه القرارات، في أغلب الأحيان، مع نوع من الشعور بالذنب أو مع تساؤلات جمّة، فما تراه القرار الأنسب في هذه الحالة أو تلك؟

ومن بين الحالات الأكثر شيوعاً هي عندما يتوقّف المريض عن طلب الأكل، فيُخيّر الأهل بين اللجوء إلى إدخال الطعام إلى جسمه عبر الأنابيب أو عدم إعطائه ما لا يطلبه جسمه بشكل إصطناعي خوفاً من عوارض جانبية قد تنتج عن ذلك.

وفي هذا الإطار، تشرح طبيبة الصحة العامة الدكتورة هبة عثمان سبب التوقف عن طلب الأكل، مشيرة إلى أن "هذا الأمر يتم في مرحلة متقدمة من المرض أو في مرحلة نهاية الحياة". وتقول: "التوقف عن طلب الأكل يأتي نتيجة لعدم تحرّك الجسم مما يؤدي إلى عدم حرق السعرات الحرارية التي يتم حرقها عادة عندما يكون الشخص بصحّة جيدة". وتكشف عن وجود نظرية تسعى لتفسير هذا الأمر باعتباره طريقة دفاع يعتمدها الجسم، "فمن خلال عدم الأكل، يفرز الجسم موادا كيميائية اسمها "كيتون" وهي مواد ترفع الشعور بالعافية". وإنطلاقاً من هنا، تفسّر عثمان أن "تخطّي الطريقة الطبيعية التي يعتمدها جسم الإنسان في مرحلة نهاية الحياة ليريح المريض عبر إلزامه على الأكل يؤدي إلى جعله يتألم أكثر".

كل المرضى ليسوا مرشحين للتغذية بالأنبوب

وفي هذا الإطار يشرح الممرض المتخصص بالعناية التلطيفية ​محمد صعب​، والذي يزور من خلال عمله في جمعية "بلسم" عدداً من المرضى وأهلهم الذين يواجهون هكذا قرار، أن "مسألة الطعام مرتبطة لدى المجتمع الشرقي بالثقافة ولا سيما أننا نعبّر عن حبّنا واهتمامنا بالأشخاص من خلال الدعوة إلى الطعام، ولكن في حالات المرض، يكون من الأفضل أحياناً عدم اللجوء إلى إلزام المريض بالأكل رغم إرادته لأن ذلك قد لا ينفع بل قد يعقّد المسألة كما تؤكد الدراسات العلمية".

ويشرح صعب أن كل المرضى ليسوا مرشّحين لكي يحصلوا على الأكل بالأنابيب، "فعندما يكون المريض في حالة تمنعه بشكل مرحليّ عن الأكل والإبتلاع، إن بسبب جلطة معيّنة أو أورام في الفمّ أو كسور في الحنك...، أو في حالة مستقرّة تمنعه عن الأكل كالفالج، يمكن اللجوء إلى الأكل بالأنبوب كوسيلة لتغذيته". أما إذا كانت حالة المريض متدهورة وتتجه نحو نهاية الحياة، وما من مانع جسدي من التغذية بشكل طبيعي إنما فقط وجود عدم الرغبة في الأكل (وهذا ما يعاني منه خصوصاً مرضى السرطان في المراحل الأخيرة)، يعتبر صعب أنه "من الأفضل عدم اللجوء إلى التغذية بالأنبوب لأن ذلك قد يؤدي إلى تعقيد حالة المريض أكثر".

مخاطر التغذية بالأنبوب

التغذية عن طريق الأنابيب أربعة أنواع: إمّا من الأنف إلى المعدة، أو من الأنف إلى المصران، وإما من البطن إلى المعدة أو من البطن إلى المصران، وذلك إلى جانب الأكل الجزئي عبر الشرايين والأكل الكامل عبر الشريان أيضاً، وبالتالي فإن طرق إيصال الغذاء للمريض كثيرة.

تجدر الإشارة إلى خطر قد يؤدي إلى الوفاة لدى استعمال الأنابيب، يكمن بوصول الغذاء إما إلى المجاري الهوائية أو إلى الرئتين مما يؤدي إلى الإختناق. وفي هذا الإطار يوضح صعب أن خطر وصول محتوى الأنابيب إلى المجاري الهوائية نراه خصوصاً في حال وضع الأنابيب عبر الأنف، ولكن، لا يختفي خطر وصول الأكل إلى الرئتين في حال إيصال الأنبوب إلى المعدة عبر عمليّة في البطن، ويبقى الحل الأقل خطراً هو إيصال الأنبوب إلى "المصران" مباشرة عبر البطن.

لإطالة العمر أو لتقصيره؟

ولكن، رغم حقيقة الأخطار المذكورة آنفاً، فإن معظم الأطباء ينصحون دائماً بهذه العملية فيما بعضهم الآخر لا يفضلها... والقرار في النهاية يبقى على عاتق الأهل.

وهنا يشدد صعب على ضرورة "أن يعرف الأهل أنه إذا لم يكن هناك احتمال تحسن حالة المريض ولو بنسبة قليلة، فـ"حرام" إعطاء الأكل بالأنابيب لأن المخاطر كثيرة وقد لا تساهم هذه التغذية دائماً بإطالة عمر المريض بل قد تسبب بتقصيره"، ولكنه يشدد على أن "عملنا في العناية التلطيفية يقضي بمساندة الأهل وإعطائهم النصائح وبمرافقة المريض وبالتالي فلا نلزمهم بأي شيء".

أما بلال صيداني، الذي إتخذ قراراً صعباً وإخوته بوضع الأنابيب لوالدته التي كانت تعاني من سرطان في الدماغ، فيشدد على أن "مسألة الأكل بالأنبوب تحيطها نقاط استفهام كبيرة... ولكن في النهاية، على المريض أو أهله أن يثقوا بطبيب ما ويستمعوا لنصائحه، فقد سألنا عدداً كبيراً من الخبراء في لبنان وخارج لبنان ويمكن القول أننا حصلنا على أجوبة إيجابية بقدر الأجوبة السلبية وبالتالي... فالقرار صعب وما من رأي علمي واحد وواضح".

ويشير إلى أن "خيار إستعمال الأنبوب للأكل جاء نتيجة عاملين: أولاً، عامل ضغط شركة التأمين لأن الوالدة في المستشفى وحالتها لا تتحسن، فكانت الشركة تطالبنا بأوراق وتقارير كثيرة وتهدد بتوقيف التأمين، لكي يدفعوا المريض وأهله لأخذ خيار النقل إلى المنزل. وثانياً، عامل الأطباء الذين أيضاً يسعون لإقناع المريض الذي لا تتغير حالته والذي طال مكوثه في المستشفى أو إقناع أهله بأن المنزل أفضل لهم في هذه الحالة، تحت شعار "أريحلو".

ويضيف: "لم يكن بإمكان والدتي الأكل بتاتاً، فوقع الخيار على الأكل بالأنبوب، ولم يكن الخيار الصائب لأننا لم نعرف كيفية استعماله. فبعد أن عادت والدتي إلى المنزل، وضعنا نسبة كبيرة من الأكل في الأنبوب بسبب قلّة خبرتنا، مما أدى إلى وصوله الى الرئتين والإختناق، فنقلناها إلى المستشفى وسرعان ما فارقت الحياة".

العناية التلطيفية: حاجة للمريض والأهل

عندما ينقسم رأي الأطباء، ينقسم أيضاً رأي أفراد الأسرة... ولكن، يبقى من المحبّذ عدم تعقيد حالة المريض المنازع أكثر فأكثر عبر أنابيب ترغم جسمه على أمور لا يريدها، بحسب صعب الذي يشير إلى أنه "من الصعب الحديث مع العائلات عن مخاطر الأكل عبر الأنبوب التي قد تكون أكثر من منافعه، خصوصاً في بعض الحالات كحالات السرطان المتقدمة جداً وفي فترة الموت الوشيك"، لافتاً إلى أنهم "إذا وضعواً أنبوباً يفرحون بالأكل الذي يدخل إلى جسمه ولكنهم يعرضونه للخطر".

يبقى القرار بيد الأهل، ومن هنا تكبر اليوم في ظلّ التطوّر الطبي وازدياد الخيارات المتاحة أمامهم، الحاجة إلى إعطاء أهميّة أكبر للعناية التلطيفية في لبنان التي تساهم بمساندة الأهل وإرشادهم لإتخاذ قراراتهم من جهة وإلى تخفيف ألم المريض المنازع من جهة أخرى.