بعد التقدّم الذي أحرزته المعارضة السوريّة المسلّحة في بعض مناطق محافظة درعا في الأيام القليلة الماضية، كثر الحديث عن إنطلاق معركة إقتحام دمشق إنطلاقاً من الجنوب. في المقابل، وبعد التقدّم الذي أحرزه الجيش السوري النظامي أخيراً في بعض بلدات وقرى ريف دمشق وتطويقه "الغوطة الشرقيّة"، ذكرت تقارير إعلامية أنّ معركة دمشق لن تبدأ أبداً! فما هي حقيقة الأمور، وهل فعلاً بدأت، أم أنّ الهجوم الإستباقي الذي ينفّذه الجيش السوري يعني أنّ هذه المعركة الحاسمة الموعودة لن تبدأ أبداً؟
بالنسبة إلى الشقّ الأوّل من السؤال، الأكيد أنّ معركة دمشق الكبرى لم تبدأ بعد، على الرغم ممّا يشاع إعلامياً عن ذلك من وقت إلى آخر. لكن التحضيرات لها مستمرّة على قدم وساق، في ظلّ تأخير واضح في المواعيد، نتيجة صعوبات مختلفة. وفي هذا السياق، يمكن التوقّف عند سلسلة من الملاحظات:
أولاً: إنّ عدداً كبيراً من مقاتلي المعارضة الذين خضعوا لدورات تدريبيّة في الداخل السوري، في مناطق مثل يلدا وجرمانا وبيبلا في ريف دمشق، وفي مناطق أردنيّة وتركيّة حدوديّة مع سوريا، توجّه إلى جبهات القتال. لكن فرقاً أخرى كبيرة لم تنه تدريباتها بعد. وهذه من العوامل المؤثّرة للتأخير، باعتبار أنّ الدخول إلى مدينة بحجم دمشق (تبلغ مساحتها الإجمالية مئة وخمسة كيلومترات مربّعة، ويبلغ عدد سكانها نحو مليون وسبعمئة ألف نسمة من دون إحتساب سكّان الضواحي) يتطلّب عدداً ضخماً من وحدات المشاة. وهذا ما يمثّل إحدى نقاط الضعف الرئيسة للمعارضة التي لم تتمكّن حتى اليوم من حشد أكثر من عشرة آلاف مقاتل في أرياف دمشق وفي الأجزاء الجنوبيّة والشرقيّة للمدينة (نحو 6000 من "الجيش السوري الحرّ"، ونحو 4000 من "جبهة النصرة" و"لواء الإسلام" وتنظيمات أصوليّة متشدّدة أخرى).
ثانياً: إنّ الأسلحة النوعيّة الموعودة من أكثر من دولة عربيّة وأوروبيّة، بدأت تصل إلى قوّات المعارضة السورية خلال الأسابيع القليلة الماضية، وبالتالي من الحكمة إرجاء أيّ خطّة هجوميّة في إنتظار إستكمال وصول هذه الأعتدة التي من شأنها إحداث تغيير مهمّ في ساحات القتال. يُذكر أنّ تقارير إعلاميّة تحدّثت عن إرسال طائرات أسلحة من مطار الدوحة في قطر إلى مطار أنقره في تركيا، ومنه برّاً إلى الداخل السوري الشمالي، وكذلك من مطار زغرب في كرواتيا إلى مطار عمّان في الأردن، ومنه براً إلى الداخل السوري الجنوبي. وعلى الرغم من النفي الرسمي لهذه التقارير من الدول المعنيّة، إلا أنّ بعض الأسلحة النوعيّة والحديثة مثل القنّاصات البعيدة المدى، والقديمة والتي سبق أن إستخدمت في "يوغوسلافيا السابقة"، مثل المضادات الأرضيّة، بدأت تظهر بأيدي معارضين سوريّين.
ثالثاً، إنّ أعمال حفر الأنفاق في محيط العاصمة السورية مستمرّة من قبل قوّات المعارضة المسلّحة التي تحاول إيجاد أرضيّة آمنة، لتخزين الأسلحة والذخائر، ولحماية المقاتلين الذين يتوافدون تدريجاً إلى ضواحي دمشق. يُذكر أنّ وحدات الجيش النظامي السوري إكتشفت أخيراً عدداً من هذه الأنفاق المبنيّة بشكل محترف تحت الأرض، والتي تلعب حالياً دوراً مهمّاً في حماية مقاتلي المعارضة من الغارات الجويّة، وتسهّل وصول الإمدادات بالعديد والعتاد بعيداً عن المراقبة، وعن مخاطر القصف الجويّ والبرّي. وهذا ما دفع النظام السوري في الأسبوع الماضي إلى تجديد الحملة الإعلامية العنيفة على حركة حماس الفلسطينيّة، باعتبار أنّ حماس التي بنت مئات الأنفاق لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزّة منذ سبع سنوات حتى اليوم، متّهمة من قبل القيادة السورية بنقل خبرتها هذه إلى مقاتلي المعارضة السورية.
رابعاً: إنّ الجيش السوري لا يزال يحكم السيطرة على "الأحياء" الـ17 الرئيسة التي تتشكّل منها دمشق، مع وجود جيوب متفرّقة للمعارضة، خاصة في جنوب العاصمة وشرقها. وهو نفّذ في الأيام القليلة الماضية هجمات ناجحة بتغطية صاروخية ومدفعيّة عنيفة، وذلك في كل من داريا وعدرا والعتيبة، وكذلك هجمات أقلّ نجاحاً في كل من جوبر والقدم والقابون والتضامن ومخيّم اليرموك. ومن بين النتائج المؤثّرة التي حقّقها الجيش السوري، النجاح في محاصرة مجموعة كبيرة من المعارضة في "الغوطة الشرقيّة" كانت تستكمل إستعداداتها للتقدّم نحو دمشق. يُذكر أنّ الجيش السوري الذي يقاتل على أكثر من جبهة، ويخوض معارك شرسة في حلب وحمص وغيرها، أهمل مناطق عدّة في الأرياف السورية، وحتى محافظات كاملة مثل الرقّة، مفضّلاً وقوعها بيد المعارضة السورية، على سحب قوّاته من دمشق، كونه يعتبر أنّ معركة العاصمة هي المعركة الفاصلة.
بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، الأكيد أنّه ما لم يتمّ الوصول إلى تسوية عربية-دوليّة للحرب في سوريا (وهو أمر مستبعد حتى إشعار آخر، على الرغم مما يتردّد) فإنّ المعارضة السورية ستوظّف كل إمكاناتها لتنفيذ معركة دمشق! والسبب أنّ هذه المعارضة أدركت أنها من دون إحداث نصر معنوي وميداني مهمّ على الأرض، لن يكون لها أيّ أمل في إسقاط النظام في سوريا، لا عاجلاً ولا آجلاً! ومن الضروري التذكير أنّ التقارير الغربيّة التي تحدّثت منذ أشهر عن معركة دمشق، كانت حدّدت موعد بدء هذا الهجوم، في أي وقت بين فصلي الربيع والصيف 2013. وبالتالي، لم تنقض هذه المهلة بعد، والمسألة مرتبطة بمدى نجاح الجيش السوري في عرقلة إستعدادات المعارضة الميدانية في محيط العاصمة. وعلى كل حال، يُخطئ من يتوقّع أنّ تكون معركة دمشق عمليّة عسكريّة كلاسيكيّة سريعة، على غرار مفهوم الهجمات التقليديّة. فهذه المعركة، إذا ما إنطلقت، لن تكون إلا تصاعديّة وتدريجيّة، قد تبدأ بضربة معنويّة قاسية، على غرار عمليّة تفجير مبنى الأمن القومي السوري في 18 تمّوز 2012، وتتصاعد من خلال محاولات تقدّم على أكثر من محور، إلا أنّها لا يمكن أن تنتهي في وقت قصير، حيث أنّها معركة طويلة وطويلة جداً، سيتورّط فيها أكثر من طرف من خارج سوريا.